السبت، 24 أغسطس 2013

مداخل تنظيم محتوى مادة الأدب العربي ونصوصه

تعددت مداخل تنظيم محتوى مادة الأدب العربي ونصوصه، إلا أن مدخل العصور التاريخية هو السائد في تدريسه، وإن اختلفت الآراء في أمثل المداخل المناسبة، وانقسمت بين مؤيد ومعارض؛ فالبعض يرى المدخل السابق لاتفاقه مع التسلسل التاريخي، والبعض الآخر يرى غير ذلك. وفيما يلي عرض لتلك المداخل .
أ - المدخل التاريخي: يعتمد هذا المدخل في دراسة الأدب على تقديم النصوص الأدبية تبعاً لتسلسلها الزمني، فتقدم النصوص من العصر الجاهلي أولاً؛ فصدر الإسلام، فالأموي، فالعباسي، فالأندلسي، فالدول المتتابعة، فالعصر الحديث؛ حيث يعرض المحتوى في العصر المختار بطريقة أفقية، تشمل الفنون الأدبية المختلفة السائدة في هذا العصر، بغض النظر عن ولادة فن معين في هذا العصر أو غيره؛ فلقد قسم مؤيدو هذا المدخل الحياة الأدبية على أساس الأحداث السياسية الكبرى، التي أثرت في حياة الأدب، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي لونته.
وهناك اتجاه آخر ينادي بالمدخل التاريخي – أيضاً -  على أن تكون البداية في تقديم الأدب بالعصر الحديث لسهولته، وقربه من ثقافة الطالب، ثم يُنتقل إلى العصور التالية حتى الانتهاء بالعصر الجاهلي؛ لأن دراسة الأدب من القديم إلى الحديث تربك الطلاب، وتنقلهم فجأة من عصرهم، الذي يعيشون فيه إلى عصر يتسم بالصعوبة في لغته وأسلوبه؛ لذا فإن المدخل التاريخي العكسي ينير الطريق، ويذلل الصعوبات، ويحمل الطلاب على الإقبال على الدراسة الأدبية؛ لأن الطالب عندما ينتقل من المألوف إلى غير المألوف بالتدريج يجعله يأنس إلى الدرس، وهو مبدأ معروف ومحبب في التربية الحديثة.
لكن معارضي هذا المدخل يرون أنه إذا كانت هذه البداية العكسية تناسب الطالب من الناحية النفسية، فإنها تحرمه من المقارنة بين عصر وآخر؛ لأن الأدب فن نامٍ، يتطلب تتبعه في مراحل نموه المختلفة، ولا يمكن معرفة نهاية سلسلة تطور الأدب قبل بدايته.كما يرون أن عملية الفصل بين العصور ليست ممكنة تماماً؛ لأن الظواهر الأدبية في عصر ما قد لا تتكامل، وتأخذ مداها المطلوب إلا في عصر لاحق، أي أن العصور تتداخل، ويبدو الفصل بينهما من الناحيتين الاجتماعية والعقلية في غاية الصعوبة.
وأن هذا المدخل في تنظيم محتوى الأدب قد لا يكون عملية سهلة, أو ربما يشكل خطورة معينة في عملية التعليم؛ لأنه يغرس في ذهن الطلاب فكرة مسبقة، تؤثر في الأحكام، التي يصدرونها، وتفسد نظرتهم إلى الأمور؛ لأن الأدب ليس ظلاً للسياسة، والحكم بالرقي والانحدار ليس هو الغرض الأصيل من الدراسة؛ وإنما الغرض الأصيل يتجلى في شرح الظواهر، ودراسة النصوص، واستكناه ما وراء هذه النصوص من دلائل نفسية، تنبئ عن الفرد، ودلائل اجتماعية، تشير إلى روح الجماعة.
كما يؤخذ على هذا المدخل أنه يقف عند أعلام العصور، ويهمل المغمورين أو المقلين، وقد يكون لهؤلاء وأولئك نتاج جيد، يقف عند مستوى الأعلام.
ب - مدخل الفنون الأدبية: وفيه يتم عرض الفنون الأدبية المختلفة عرضاً رأسياً؛ فالخطابة مثلاً كفن أدبي يبدأ تناوله من العصر الجاهلي ماراً بكل العصور، حتى يصل إلى العصر الحديث. ودارسو الأدب وفق هذا المدخل يتخذون فنون الأدب محوراً لدراستهم، فهم يتناولون الفنون أو الأغراض الأدبية من وصف أو غزل أو مدح أو رثاء أو هجاء، وما إلى ذلك معالجين تلك الفنون فناً فناً، وراصدين تطوره، وأسباب ضعفه، أو قوته، معللين ذلك تاريخياً ونفسياً، مهتمين بدراسة معظم الأدباء، مشهورهم ومغمورهم.
إنه مدخل يقوم على تجميع الموضوعات حول محور واحد، وهذا ما جعل البعض يشبه هذا المدخل بطريقة المشروع في التربية الحديثة. وتتبدى قيمة هذا المدخل في ذلك؛ حيث يزيد النصوص الأدبية ارتباطاً في الذهن، كما يعمل على تقوية الحس الأدبي لدى الطلاب، من خلال إدراك المفارقات، وأوجه الشبه، وتقوية الدقة في إصدار الأحكام، كما يعود الطلاب الاعتماد على النفس في إصدار هذه الأحكام؛ فيبتعدون عن التعميم والسطحية، إلى جانب تنمية التذوق الأدبي لديهم نتيجة الاتصال المستمر بالنص الأدبي بما يوفر له المتعة في تجلية الآثار الأدبية وتذوقها.
جـ -  المدخل المكاني: ويقدم الأدب فيه حسب المكان أو الإقليم، فهناك الأدب السعودي، وأدب المهجر، والأدب المصري وهكذا. ويحتج دعاة هذا المدخل بأن الأدب هو صدى للأديب، وهو في الوقت نفسه صورة للمجتمع، الذي نشأ فيه، ومظهر من مظاهره، وإن المزايا والخصائص التي تميز البيئات أو الأقاليم عن بعضها هي التي توجه الأدب، وتؤثر في مسيرته، وإذا ما اختلفت هذه الخصائص فإن حياة الأقاليم تختلف من الناحية الأدبية قطعاً.
وقد يبدو هذا التقسيم مقبولاً في العصور التاريخية الأولى للأدب العربي حين لم يكن هناك وسيلة اتصال بين أديب وأديب. أما وقد تلاشت التقسيمات الجغرافية – إلى حد كبير- فإن الأديب أديب بطبعه، لا يؤثر في صفته هذه موضع سكنه، أو مكان ميلاده إلا بقدر، طالما رجع إلى التراث العربي والعالمي، واستند في ذلك إلى الموهبة الذاتية والقدرات الخاصة، وعالج قضايا عامة، يمكن تقبلها على مدى أوسع ودول أكثر. وبالتالي يتراجع هذا المدخل ليكون تالياً للمدخلين الأوليين.
وهناك تصنيف آخر لمداخل تنظيم محتوى الأدب ونصوصه وهي:
1 – مدرسة قديمة كانت تدرس تاريخ الأدب، وتعده محوراً للدراسة، ومن خلاله تُساق النصوص كشواهد للحقائق، التي تعرض لها. وهذه مدرسة قديمة؛ لأنها كانت تعنى بالمعارف التي تتصل بالتراث أكثر مما تعنى بالتراث نفسه، وبما وراء ذلك من مهارات الفهم والتحليل والتركيب والتذوق والنقد، وبذلك تضيع جوهر الدراسة النصية في سبيل قشور لا جدوى لها، ولا غناء فيها.
2 – مدرسة ترى أن تُنتقى نصوص من روائع التراث قديمه وحديثه، تدرس دراسة تذوقية، ومن مميزاتها الاعتناء بالنواحي الجوهرية في دراسة التراث، ولكن كثيراً ما تشتت أذهان الطلاب؛ فيعجزون عن معرفة بيئة النص، وجوه، والحياة التي أحاطت بالأديب؛ فدفعته بملابساتها إلى إنشاء نصه.
3 – مدرسة ثالثة ترى أن يدرس التراث الأدبي في صورة فنون، كفن القصة، أو المسرحية، أو المقالة، أو الشعر الغنائي، ومن مميزاتها الخيط المتصل، الذي يربط نماذج الفن الواحد، ويكشف عن سلسلة تطورها، ومما يؤخذ عليها أنها قلما تُلم بمجموعة الفنون البارزة إلمامة كافية.
4 – مدرسة ترى أن يُدرس التراث الأدبي في صورة عصور، ويطالب بعض روادها أن يكون البدء بالعصر الحديث، ويرى آخرون أن يكون لعامل الزمن، ومسيرته التاريخية وزن واعتبار.
ويجب أن تكون أساس الدراسة ولبابها، وأن يُتجه فيها إلى نواحي الفهم الذاتي، والتحليل التلقائي، والذوق المعتمد على حس التلاميذ، والنقد المبني على الأسس الجمالية السليمة، ولا بأس بأن ينتقل فيها التلاميذ من عصر إلى عصر، على أن يكون التركيز على الفنون الحديثة كالقصة والمسرحية والمقالة، على ما يمكنهم من تمثلها، وإدراك خصائصها، والاستمتاع بها، ومحاولة الإبداع على نمطها؛ إذا تسنى ذلك.أما دراسة الحقائق الأدبية فلابد أن تكون بقدر، وأن تأتي عن طريق الاستنباط، وأن تظهر فيها شخصيات التلاميذ، وأن تبتعد عن القوالب، والأحكام العامة، التي لا توضح الظواهر.
والواقع أنه لا يمكن الاقتصار على مدخل واحد من المداخل السابقة، وإنما يمكن الاعتماد عليها جميعاً في تحليل الدراسة الأدبية؛ إذ يُستفاد من طريقة العصور في تتبع التطور الزمني للأدب، كما يُستفاد من طريقة الفنون في أخذ صورة كلية عن تتبع صورة هذا الفن بين القديم والحديث، ويُستفاد من الطريقة الإقليمية في دراسة الأدب في بيان أثر البيئة في الإنتاج الأدبي، كما يشار إلى التيارات الثقافية في هذه البيئة، وانعكاسها على ذلك الإنتاج، ولا شك في أن الاستفادة من مزايا هذه الطرق جميعاً تحقق المفهوم الواسع للأدب.
المصدر: الدكتور وجيه المرسي أبولبن

الأدب العربي القديم (الموضوعات التي يمكن دراستها في هذا الأدب )



- ضبط مفاهيم كل من : التاريخ العام، الأدب، تاريخ الأدب. 
 - نشأة التأليف في تاريخ الأدب وتطوره لدى العرب .
 -  أصناف التاريخ للأدب: قضايا كل من التحقيب الزمني، العواصم الثقافية.
 - الأجناس الأدبية، المدارس والتيارات، الأغراض والمعاني.
 -  الجاهلية : خصائصها، مفاهيمها وأدبها.
 - صدر الإسلام: أثر الإسلام في الأدب العربي.
  -  العصر الأموي: التحولات التي دخلت على مفهوم الأدب فيه (الشعر، الخطابة، الرسائل) وأبرز الأعلام والأعمال.
- العصران العباسيان الأول والثاني: التحولات التي دخلت على الشعر، أبرز الأعلام والأعمال.
- العصران العباسيان الأول والثاني: تطور النثر الفني، الرسائل، الخطابة، أبرز الأعلام والأعمال. 
-  خصائص الأدب في القرنين : الثالث والرابع.
- المقامات : مقامات الحريري والهمذاني . 
-  العصران المغولي والعثماني: خصائص الشعر والنثر فيهما.
-   الموسوعات وحركة المحافظة على التراث.
 - تحليل لأعلام من العصور القديمة حتى نهاية العصر العثماني .   


الحوار في الشعر العربي القديم شعر امرئ القيس أنموذجا


بقلم:  محمد سعيد حسين مرعي
كلية التربية للبنات- جامعة تكريت
يعرّف الحوار على نحو عام بأنه ((تبادل الكلام بين اثنين أو أكثر، (أو أنه) نمط تواصل حيث يتبادل ويتعاقب الأشخاص على الإرسال والتلقي)) ( )، وإذا ما تأملنا تعاريف أخرى فلا نجدها تخرج عن هذا الإطار ( )، بيد أن ما ورد لم يكن تعريفاً جامعاً شاملاً ذلك بأنه أغفل نوعاً من الحوار مهماً وشائعاً وله جذور ضاربة في القدم، ولا سيما في الشعر ذلك ما يدعى بالحوار مع النفس، ويصطلح عليه ب ((المونولوج)) أو الحوار الداخلي، حيث لا يشترط مشاركة خارجية في الحوار، ولا تعاقب في الإرسال والتلقي، بل يلقى من طرف واحد وإليه، فهو ((نشاط أحادي لمرسل في حضور مستمع حقيقي أو وهمي)) ( ) وتبرز أهمية الحوار بأنواعه المختلفة في الشعر العربي القديم لتنفي عنه ذاتيته المطلقة، ذلك لأن أنسب الأساليب التي تلائم التعبير عن الأفكار في القصيدة هو الأسلوب الحواري فالحوار كالشعر لا مكان فيه للكلمة الزائدة ( ) كما أنه يتجاوز على نحو قصدي وخفي المتحاورين إلى طرف ثالث هو المتلقي، مما يخرجه عن صفة الكلام اليومي الذي يحدث عادة بين اثنين، ويضفي عليه حداً وظيفياً جديداً يمكن تلمسه من الإجابة عن التساؤل الآتي : - هل يعدّ الحوار الذي يتخلل القصائد الشعرية حواراً قصصياً ؟ وهل بالإمكان عدّه مكافئاً للحوار الذي يتخلل القصص النثرية ؟ وللإجابة عن ذلك لا بد من معرفة الوظائف التي يؤديها الحوار في القصص النثرية، ولعل من أبرزها الكشف عن الشخصيات بمظهرها الخارجي أو الداخلي، والإسهام في بناء الحدث ونموه فضلاً عن خلق التلاحم بين عناصر العمل القصصي( ) فإذا أدّى الحوار في القصيدة أيّاً من هذه الوظائف أو أية وظيفة أخرى مشابهة تصعد من وتيرة الصراع بنوعيه الداخلي والخارجي – فلا حرج عندئذ من عدّة كذلك، أما للإجابة عن الشطر الثاني من التساؤل فنرى أن معظم النظريات الأدبية الحديثة تميل إلى طمس التمييز بين الأنواع الأدبية( )، ولا يخفى ما فعله أرسطو عندما وضع نظرية لدراسة الشعر، إذ يتضح التداخل الواضح بين الشعر والقصة والتاريخ،حيث إنّ القص أول ما ظهر شعراً، فتعود جذوره إلى أزمنة موغلة في القدم، فقد تداوله المصريون القدماء في معابدهم وطقوسهم الدينية، ثم جاء بعدهم اليونانيون فسجلوه في ملحمتيهم الإلياذة والأوديسا، ثم أن أولى الأساطير والقصص التي دونها الإنسان نظمت شعراً، كما هو الحال في الأساطير السومرية والبابلية، وإن ملحمة كلكامش هي الأخرى كتبت شعراً( ). كما أن الواقع هو الأخر يعلمنا بعدم وجود أو حتى عدم إمكان وجود أعمال غنائية خالصة، أو قصصية خالصة، أو درامية خالصة، وهكذا نجد أن الأجناس الأدبية تشترك مع بعضها في غير قليل من السمات، ومسألة التنافذ أمر واقع بينهما لا يمكن تجاهله. من هنا أحسب أن الحوار في الشعر لا يختلف عن الحوار في النثر إلا بمقدار ما يقدمه كل منهما من وظائف خدمة للاتجاه القصصي مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصيتهما، فالشعر يميل إلى الذاتية والنثر يميل إلى الموضوعية، وهذا لا يعني تناقضهما بل ((إن الذاتي في الشعر يشي بالموضوعي كما أن الموضوعي يدل على الذاتي ويتضمنه))( ). إذ تمتزج الذات بالموضوع ويتعادل التعبير والإحساس وتغدو اللغة والصورة والإيقاع أدوات جديدة موظفة تحول الغنائية من غنائية الذات إلى غنائية التعبير فتتغنى الذات بموضوعها. وعلى أساس ما تقدم يمكن تقسيم الحوار على نوعين رئيسين : - 1- الحوار الداخلي ((المونولوج)) حيث يدور بين الشخصية ونفسها أو ما يكون معادلاً للنفس نحو الأصحاب الوهميين والأشياء غير الناطقة... وسواها. 2- الحوار الخارجي (الدايالوج) ويقسم على : أ‌- حوار مباشر: ويدور بين شخصيات القصة على نحو غير مباشر،إذ يوجه المتكلم كلامه مباشرة إلى متلقٍ مباشر ويتبادلان الكلام بينهما( ). ب - حوار غير مباشر: وله صيغتان؛ الأولى تسمى النقل غير المباشر وفيه تضغط الأحداث ويختصر الزمن ويكون المنقول على درجة من الانتقائية والأخرى : تعتمد على المنقول المباشر، إذ يتم استدعاء حوار جرى في الماضي محافظاً على حرفيته وصيغته الزمنية( ). وأحسب أن النوع الأول أي (الداخلي) أكثر شيوعاً في الشعر العربي الذي يعدّ ذاتياً، فغنائية الشعر العربي لا يختلف عليها اثنان يعضد ذلك طبيعة الحوار الداخلي ((فالمونولوج الداخلي يتصل بالشعر من حيث أنه ذلك الكلام الذي يسمع ولا يقال وبه تعبر الشخصية عن أفكارها المكنونة، دون تقيد بالتنظيم المنطقي، فخواطر الإنسان لا تقل أهمية أو دلالة عن كلامه أو أعماله وتسجيلها واجب على الفنان محتم))( ) وحتى عندما نجد حواراً خارجياً فإنه في الغالب – يأخذ صورة المناجاة أي من دون ردّ من المخاطب، وبالتالي يتماهى مع الحوار الداخلي. يفهم من كلّ هذا أنّ الحوار بنوعيه السابقين يتجه لمخاطبة الآخر سواء أكان ذلك الآخر ذات الشاعر أم شخصاً غريباً أو أشياء أخرى (غير حية)، ولا يخفى على أحد ما لشعر امريء القيس خاصة من أهمية بالغة، وقيمة كبيرة، وشهرة واسعة، امتدت منذ عصر ما قبل الإسلام وإلى يومنا هذا، كما لا تخفى ريادته للشعر العربي في مجال الحوار والقصص الشعري من هنا جاء اختيارنا له ليكون الحوار في شعره أنموذجاً للحوار في الشعر العربي القديم إذ تكشف الدارسة إن شاء الله – عن تطوره ونضجه على الرغم من أنه يمثل البدايات الأولى للشعر العربي وبتعبير أدق أقدم ما وصل إلينا منه. أطراف الحوار وإذا كان الحوار يتجه للآخر – كما أسلفنا – ولتنوع الآخر وتعدده في شعر امريء القيس ارتأينا أن نضع ترتيباً للأطراف المحاورة كما يأتي : - 1- الحوار مع الذات : يحاور الشاعر نفسه عندما يجد حاجة ملحة لذلك نتيجة للصراع الذي ألمّ به والناشئ – عادة- : من بعد الأحبة لرحليهم، فيلجأ إليه ((لتقديم الحالات النفسية التي تتم في وعيه الخاص))( ) إذ يقول: ( ) سَما لَك شوقٌ بعدما كان أقصَرا وحلّتْ سُلَيـمى بطنَ قوّ فَعرْعَرَا كِنانِيّةٌ بانتْ وفي الصّدْرِ وُدّها مجـاوِرةً غسانَ والحيّ يـعـمرا بِعَينيّ ظعَنُ الـحيّ لمّا تحملُوا لَدَى جانبِ الأفلاجِ مِنْ جَنب تيمرا فَشبّهتُهمْ في الآلِ لما تكمشوا حـدائقَ دَومٍ أو سَفيـنا مُقــيرَّا ........................... ................................. إذا نالَ منها نَظرةً ريـعَ قَلبُهُ كما دَعَرتْ كأسُ الصّبوح المخمّرا أستهل الشاعر قصيدته بمخاطبة نفسه، التي ألم بها الشوق وأحاطها الحزن وذهب بها كلّ مذهب، حيث وصل إلى ذروته لبعد سليمى عنه بعد أن رحلت بعيداً. تبرز الضمائر في المطلع الحواري للقصيدة / النص بتجلياتها المتنوعة لتسجل منبها أسلوبياً مهماً يفرض هيمنته في إنتاج الدلالة، وتنوعها من خلال التبادل (تبادل الضمائر) أو التحول (الالتفات) ؛ يبدأ الحوار ب ((سما لك)) ويبدو لأول وهلة أن الكلام يتوجه إلى شخص أخر (مخاطب) جاهل بالأمر / الخبر ( )، إلا أنه عند التأمل يتضح أن لا وجود للآخر، إن من يخاطبه هو ((ذات الشاعر))، وهذا ما شاع في الشعر العربي القديم، ويسمى بالتجريد وهو (إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك)( )، ويعدّ نوعاً من الأقنعة يلجأ إليه الشاعر – أحياناً – لكسر الرتابة في الحديث، أو لتشويق المتلقي وإيهامه، أو أية أسباب أخرى يحددها السياق، كما أن الشاعر (معني بإقامة فاصل لغوي بينه وبين نفسه، ويؤدي هذا الفاصل وظيفة تضليلية توحي بأن الشاعر يخاطب آخر في حين أنه في الحقيقة – يخاطب ذاته)( )، وبذا فإن الشاعر يحاول شطر ذاته على ذاتيين ( ) : - 1- الذات الحقيقية (أنا الشاعر) متمثلة بشبكة المعارف التي تؤسسها الذات في حضورها الفعلي الوجودي 2- الذات الشعرية (أنا الشعر) وهي أنا الشاعر الفرضية التي تظهر في النص حيث تمثل – هنا – الذات الشعرية دور المتكلم / الآن بينما تمثل الذات الحقيقية دور المخاطب/أنت؛ ولذا فإن النظر في البنية العميقة للنص سيحيل على نتيجة مؤداها أن المتكلم هو ذات المخاطب ويمكننا توضيح ذلك من خلال المعادلة الآتية: أنت (المخاطب) = ذات الشاعر (الحقيقية) أنا (المتكلم) = الذات الشعرية أنا = أنت المتكلم = المخاطب ولعل ما جعله يبادل بين الضمائر (أنا /أنت) – هنا – لإيجاد شريك يخفف عنه وطأة الهّم الذي ألم به جراء بعد الحبيبة بعد أن تخصص بذات الشاعر من خلال تقديم الجار والمجرور على المسند إليه (شوق). ومما يؤكد أن المتكلم والمخاطب يعودان لمرجعية واحدة التفات الشاعر من ضمير الخطاب / أنت إلى ضمير التكلم / أنا، بحيث لم يستطع تأخيره إذ ظهر بسرعة وفي البيت الثالث : بعيني... ثم كرر ذلك في البيت الرابع ليؤكد حضور (الأنا) : فشبهتهم... كما أن المخاطب / الآخر الخارج من الذات (ذات الشاعر) لم يخرج عليها، بل يكاد يتوافق معها تماماً ويتوحدان معاً إزاء الآخر / المتحدث عنه / الحبيبة / سليمى، من حيث الموقف / الموضوع والمشاعر والأحاسيس تجاهها، وتجاه المكان الذي حلت فيه، فكلاهما – إن جاز لنا التعبير- يقران أن سليمى رحلت، وأنهما حزينان لفراقها، وإن قوّ وعرعر / وتيمر والأفلاج (الأمكنة / المكان) قد احتضنها، وعزلها عنهما / عنه. فالحزن الناشئ عن البعد عن المكان أسهم في توحيد الذاتيين، ويترسخ البعد / الغياب من خلال ضمير الغائب (هو) الذي يبرز بعد حين من خلال الالتفات من التكلم إلى الغائب : إذا نال منها نظرة... فالتحول من ضمير التكلم (أنا) فشبهتهم إلى ضمير الغائب (هو) في (نال...) يقترن بدلالة الانتقال من القرب إلى البعد ( ) الذي أفصح عنه النص بوضوح تام، حيث إن الشاعر أقام احتفالية وصفية رائعة لرحيل الحبيبة مشبهاً ظعنها بحدائق الدّوم تارة وبالسفين تارة أخرى، وبالنخيل المغروسات في الماء ثالثةً، ويأتي الطباق في الشطر الأول من المطلع : سما لك شوق بعد ما كان أقصرا ليدلل على التحول الذي حصل في أحاسيس الشاعر ومشاعره جراء بعد الحبيبة، فبعد أن كان الشوق خافتاً في القرب، تأجج وأشتد في البعد، ليتوافق تماماً مع ما حصل من تغيرات على المستوى اللغوي للنص، كما أن التغيير في الأمكنة وتعددها رافقه على المستوى اللغوي تعدد الضمائر وتحولها من خلال الالتفات. بيد أن امرأ القيس ليس من النوع الذي يستسلم ويذعن للهم والحزن لبعد الأحبة عنه، فيرفض الذل والهوان ولم يترك نفسه على هواها بل يزجرها ويردعها( ): فدَعْ ذا وسَلّ الهمّ عنكَ بجَسرةٍ ذَمُولٍ إذا صام النّهارُ وَهجّرا يبرّز الشاعر بوساطة الحوار الداخلي ذروة الصراع الذي بلغته الحال الشعرية جراء بعد الأحبة عنه فأصبح الشاعر/أنا الشعرية بطرف وأنا الشاعر الحقيقية/ أنت (فدع...) بطرف آخر فإن استسلمت الأخيرة لليأس والحزن جاء صوت الشاعر ليرفض ذلك : دع ذكر الأحبة وأزل همك بالسفر على ناقة سريعة قوية وقت الهجيرة، وكل ذلك من أجل شدّ أزر هذه النفس وتسليتها التي أوشكت أن تستسلم للحزن الذي ألم بها. ومثلما شكلّت الحبيبة معلماً بارزاً في حواره مع نفسه، نجد ديارها هي الأخرى لا تقل شأناً عن ذلك : ( ) حيّ الديارَ التي أبلّى معالمَها عواصفُ الصّيف بالخَرجاء والحِقبُ لقد سجلت الديار – هنا - بعداً معنوياً مؤثراً لأنَّ في تحيتها خطاباً مزدوجاً ضم إليها الحبيبة أيضاً بوساطة المجاز العقلي، حيث أراد بقوله : حي الديار: حي الله أهل الديار التي كانوا فيها. ومثل ذلك يقال عن الإبل التي حملتها ( ) حَيّ الحمولَ بجانب العزْلِ إذ لا يلائمُ شكلُها شكليِ يلاحظ أن أسلوب الأمر ( ) هو الغالب في محاورته لنفسه وذلك لأنه أكثر الأساليب ملائمة لزجرها أو توجيهها الوجهة التي يريد. 2 - الحوار مع الآخر / الصاحب : أ – الصاحب الوهمي: ويوجه امرؤ القيس حواره إلى صاحب أو أكثر، لا وجود لهم في الحقيقة إلاّ في مخيلته، ومن دون أن تكون لهم مشاركة في الحوار، أو أيّ رد فعلٍ، بل يكتفون بالإصغاء إليه ولاسيِما عندما يستوقفهم الشاعر عند ديار صاحباته المقفرات، ليزيل عنها شيئاً من وحشتها، ويسري عن نفسه ما حلّ بها من ألم وحزن جراء تذكره لأهلها الظاعنين. ويبدو أنه أتخذ من حواره هذا مدخلاً للحديث عن تلك الديار، وما حلّ بها من دمار، ومن ثم للحديث عن نفسه ومعاناتها جراء فقدها الأحبة لرحليهم عنها ذلك بأنّ المكان – غالباً ما يكون انطلاقة لسرد الأحداث كما هو انطلاقة للخطاب : ( ) قِفا نبكِ مِنْ ذكرى حَبيبٍ وعِرفْانِ وَرَسم ٍ عَفتْ آيـاتُه منذُ أزمـانِ أتتِْ حججٌ بَعدي عليها فأصبحتْ كخطّ زَبُورٍ في مصاحفِ رُهَبـانِ ذَكرتُ بها الحيّ الجـميعَ فهيّجتْ عَقابيلَ سُقـمٍ مـِن ضَميرٍ وأشجانِ فسحّت دُمُوعي فـي الرّداءِ كأنّها كُلىَّ ممِنْ شِعيبٍ ذات سَحّ ٍ وتهتانِ يأمر الشاعر صاحبيه ( ) أولاً بالوقوف على هذه الديار المقفرة التي اندثرت معالمها وعندما أطمأن على وقوفهما وهو متيقن من ذلك لعدوله المفاجئ السريع ومن أول المطلع من خطاب الاثنين التي تكلم الجمع (قفا /نبك) أمرهما ونفسه بالبكاء على تلك الذكريات / الحدث (من ذكرى) التي حدثت له في ذلك المكان / الديار بعد أن أمست لها كأسطر الكتابة في الخفاء والدقة. ويأتي تشبيه الرسوم بالكتاب لدلالتين :- الأولى سطحية : حيث تدل الكتابة على مواضع الديار، فمثلما تبقى آثار الكتابة على مرّ العصور كذلك الديار، والأخرى عميقة ذلك بأن الكتابة وعلى الرغم من صغر حروفها ودقتها، ألا أنها تدل عل معاني جليلة، وعظيمة، تفوق حجم حروفها أضعافاً مضاعفة، ولعله أراد أن يعبر – أيضاً – عن الحالة المأساوية التي يمر بها، تلك الحالة القاتمة السوداوية التي خيمت على نفسه جراء بعد الحبيبة عنه واندثار ديارها، ذلك لأن الكتابة تكون – عادة – سوداء. ويبدو أن وقوف الشاعر على هذه الديار مع صاحبيه، أدخله في صراع مع نفسه من خلال صورة التضاد التي بعثت كثيراً من الأوجاع والأحزان، فالدار مرّت بحالين متناقضتين : الأولى : يوم كانت عامرة بأهلها والأحبة أنيسة بوجودهم تتخللها أسباب الحياة والأمل، ولكن الزمن الماضي كان مسرحاً لها، والأخرى : الدار– الآن – مقفرة خالية من الأهل والأحباب ومن كل أنيس، إذ درست أثارها وتغيرت علاماتها، تبعث على الحزن والألم والتشاؤم،ويمكننا تمثيل ذلك بالمخطط الآتي : - الزمن الماضي الزمن الحاضر الدار عامرة الدار مقفرة الــفرح الحزن الأمــل التشاؤم وعززت صورة التضاد أول لفظة من المطلع (قفا) التي تدلل على أنّ هناك سيراً وحركة فجاء الوقوف ليظهر التضاد بين الحركة والسكون بما يلائم الحال التي مرت بها هذه الدار فكان من نتيجة هذا الصراع مزيد من الشعرية والإبداع، للإفصاح عما تنطوي عليه نفس الشاعر من أحاسيس ومشاعر، وهذا ما أكدته الأبيات التي تلت المطلع الحواري. ويلجأ الشاعر – في الغالب – إلى محاورة هؤلاء الأصحاب الوهميين، عندما تتأجج عنده حالة الصراع – كما مرّ بنا – أو حين يمر بمحنة ما ( ) أو لرواية حدث ما ( ). ب – الصاحب الحقيقي ويخاطب الشاعر أصحاباً حقيقيين، لهم وجودهم المادي والمعنوي، في الواقع، بيد أننا لا نسمع منهم جواباً، كما في قوله : ( ) بَكى صَاحِبي لمّا رأى الدّرْبَ دُونه وأيقنَ أنّا لا حـقانِ بقَيـصََرَا فـقلتُ له لا تـبكِ عَـينُكَ إنّـما نحـاولُ مُلْكاً أو نموتَ فنعذرَا وإنّـي زَعيمٌ إنْ رَجـعتُ ممَلّـكاً بَسيرٍ ترى مـنه الفُرانِقَ أزورَا يبدو أن الحوار قد حدث في وقت سابق، وقد استعان به الشاعر لسرد قصة ذهابه إلى قيصر، فصاحبه الذي ذكره في البيت الأول هو عمرو بن قميئة اليشكري – حسب ما جاء في شرح الديوان – حيث مرّ امرؤ القيس ببني يَشكْر عندما توجه إلى قيصر، فتعرّف على شاعرهم عمرو بن قميئة، فاستنشده فأنشده وأعجبه، فطلب صحبته، فأجابه إلى ذلك، ولما رأى تهالك عمرو وحنينه إلى بلاده خاطبه وأمره بعدم البكاء، وأن يصبر على ذلك حتى يدركا غايتهما، بالوصول إلى قيصر والرجوع إلى قتال بني أسد أو أن يحول الموت دون ذلك فعندئذ لهما العذر. ويلجأ الشاعر–أحياناً–إلى محاورة شخص حقيقي ليتوجه من خلاله إلى قومه،إذ يقول : ( ) يا ثُعلاً وأين مني بنو ثُعلْ ألا حبذّا قومٌ يحُلّون بالجَبَلْ فأبِلغْ معدّا والعبادَ وطيّئا وكِندةَ أنّي شاكرٌ لبنِي ثُعلْ يوجه امرؤ القيس من خلال هذا الحوار رسالة شكر وثناء لبني ثعلْ لأنهم أكرموه وأحسنوا قراه، ويمضى في مدحهم وتعداد مآثرهم ليعلنها صرخة في كلّ القبائل. يلاحظ على هذين النصين – أنهما يميلان كثيراً إلى التقريرية ولاسيِما الأول، ذلك لأن غاية الشاعر في هذا النوع من الحوار إيصال الكلام إلى المخاطب بأيسر السبل الممكنة، كما نرى من مضمونهما. وعلى الرغم من أن الحوار بدا جافياً بعيداً عن النفس لخلوه من اللمسات الفنية وفي كلا النصيين،إلاّ أنه كشف عن المشاعر الصادقة تجاه الآخر وسمو الغاية التي ينشدها، فضلاً عن التغني بالخصال الفاضلة التي يسعى لنشرها. 3– الحوار مع الأخر / الحبيبة ويقسم على قسمين : أ- تكون فيه الحبيبة ذات دور سلبي صامتة لم تبادله الحوار، كما في قوله : ( ) أماوِيّ هلْ لي عندكُمْ من مُعرّس أمِ الصّرمَ تَختارينَ بالوَصلِ نَيْئسِِ ِ أبيني لَنا إنّ الصََريمةَ راحـةٌ من الشكِ ذي المخلوجةِ المُتلبَّسِ يحاول الشاعر تحريض ماويِة على الرد من خلال أسلوبي الاستفهام والأمر، إلا أنّه لم يفلح، وبقيت صامتة وأبقته في حيرته فالتبس عليه أمر حبها له، ولم يعرف على وجه الدقة ما بنفسها من أحاسيس ومشاعر، لذا طلب منها الإفصاح عن ذلك، حتى ولو كان صرماً وقطيعة، وهذا ما يمكن تلمسه من خلال سياق النص حيث يفتح بالنداء الذي يبدو من ظاهره أن المنادى قريب لاستخدامه الأداة (الهمزة) بيد أن واقع النص يثبت عكس ذلك فماوية لم تجب على الرغم من إلحاحه لطلب الإجابة وتشجيعه لها من خلال أسلوبي الأمر : أ بيني لنا ؛ أي بينّي لي ما في نفسك، والخبر : إن الصريمة... أي أن كان صرماً وقطيعة ففي ذلك راحة من التباس الأمر عليّ. ويبدو أن الشاعر لجأ إلى جعل البعيد منزلة القريب ليؤكد أنها حاضرة في ذهنه وقلبه وأنها ماثلة أمامه حتى وإن كانت بعيدة، وهذا من مقومات الشعرية الفذة، التي تؤسس من المجاز بأنواعه بؤرة للتكثيف ومن ثم الإشعاع منها إلى أبعد مدى وفي كل الاتجاهات. وهكذا نجد أن حالة الصراع التي انطوت عليها نفس الشاعر، بقيت على ذروتها، فلم تجب ماوية وترحه، وبقى على غير معرفة إن كان يحظى عندها بالقبول أو الرفض. ولا يجهد الشاعر نفسه–أحياناً– في طلب الإجابة، بل يخبر الحبيبة بأمر يهمها( ) ولوأنّي أُخيرّ بَيْنَ مـيّ وليلةِ ناعـمٍ لأخْترتُ مَيّا ألا يا مَيّ إنّكِ أنتِ ميّاً أعزُّ الناسِ كلّـهِمُ عَلـياّ يلاحظ – هنا – لم يطلب جواباً من (مية)، وإنما يفصح عن مدى حبه لها، وشدة اعتزازه بها، وما تكراره لاسمها أربع مرات إلا دليل على ذلك وللتعويض عن بعدها، إذ استخدم الشاعر – أداة النداء (يا) في مخاطبة (مي) ليوهم ببعدها وهي قريبة، وهذا أسلوب شائع في الشعر العربي حيث ينزل المنادى القريب منزلة البعيد لأغراض معينة ( ). ويبدو أنه لجأ إلى ذلك – هنا – للتعظيم من شأنها فيجعل بُعدُ المنزلة كأنه بُعد في المكان ومما يؤكد ذلك أنه كرر اسم (مي) في خطابه (البيت الثاني) مرتين، فضلاً عن الضمائر الدالة عليها (الكاف، أنت)، حتى لنكاد نجد أن كل كلمة في الشطر الأول تلهج باسمها. وقد يستعين الشاعر بالحوار للرد على مزاعم،وأكاذيب، ذكرتها الحبيبة في وقت سابق: ( ) وَزعَمتِ أنّي قد كِبْرتُ وإنّـما تِلكَ المكاذِبُ ليس لي عَهْدُ إن تصرمي يـا دَعدُ أو تتبدّلي غَيري، فَليس لمُخلفٍ عقْدُ لقد كانت القطيعة بين الشاعر ودعد بسبب أكاذيب ومزاعم روجت لها، فما كان من الشاعر ألا أن يفند ذلك ويجيبها بصوت هادئ مؤكداً التزامه بحبّه لها، وبالحفاظ على العهد الذي بينهما وإن قطعت وصله أو تغيرت وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح الحاسم الذي أبداه الشاعر إزاء هجر الحبيبة له أو تبديله غيره، فإن واقع الحال ينفي ذلك، فليس وارداً أن يبقى الشاعر على حبه لها وهي تبدله بآخر، ولعل تأخيره المنادى على غير ما هو مألوف وتقديمه فعل الشرط وأداته ((إن تصرمي)) يؤكد تغيره هو الأخر نتيجة لتغيرها، فلم تعد هي المطلوبة الأولى ما دام قرارها الصرم أو التبديل. ب - تكون الحبيبة ذات دور إيجابي إذ تتفاعل مع الشاعر / المتكلم وتبادله الحوار، ويطلق على هذا النوع من الحوار ب((الحوار الخارجي)) وهو ما يتضمن مؤشر (قال، قلت،سأل، سألت، أجاب، أجبت أو ما يدل على ذلك ( )، وهذا ما نجده في قول أمريء القيس ( ) : ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُـنيزةٍ فـقالت لَكَ الـويلاتُ إنّك مرُجِلي تقولُ وقـد مَالَ الغبيطُ بنا مـعاً عقرتَ بعيري يا آمرأ القْيس فأنزل فقلتُ لها سِيرِي وأرخي زِمـامه ولا تُبـعديني مِـن جَناكِ المـعلّلِ ينقل لنا امرؤ القيس تلك المحاورة التي دارت بينه وبين عنيزة في معرض سرده لإحدى مغامراته العاطفية، التي تتضح من خلالها المفارقة في أسلوبي المتحاورين كل على انفراد ومعاً، إذ يتسم أسلوبه بالتحدي والترجي (ويوم دخلت... سيري...، ولا تبعدني...)، وأما أسلوبها فيتسم بالتحذير واللين (لك الويلات... عقرت... فأنزل)،مما أسهم في شد أزر الحوار/الحدث ومضاعفة توتره. لقد تأكدت مشاركة الطرف الآخر (الحبيبة) في الحوار من خلال صيغتي القول ((فقالت، تقول)) اللتين تدلان على المباشرة في الحديث من طرفها، ثم يأتي دوره تالياً لها : فقالت... تقول... فقلت، بيد أن المباشرة في الحدث كانت من طرفه. مما أدّى هذا التوالي إلى استمرارية الحدث والسير به إلى الذروة. ويقترن – في الغالب - هذا النوع من الحوار بالحوار الداخلي، بحيث يكون الأخير تمهيداً له، ذلك لأنه أقرب أنواع الحوار إلى الشعر وأكثرها ملائمة له وكأن الشاعر أراد بذلك أن يستدرج المتلقي للإصغاء إليه من دون أن يحس بنفور من الحوار الخارجي الذي عرف بملائمته للفنون النثرية، فلو قرأنا قول امريء القيس( ) : أفـاطمُ مـهلاً بعضَ هذا التّدلُل وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي وإنْ كنتِ قد ساءَتكِ مني خليقةٌ فَسـُلّي ثيـابِي مـن ثيابِك تَنـسُل ِ .................................................. ........ فجئتُ وقد نَضتْ لنـومٍ ثيابَها لَدَى السّترِ إلاّ لِـبسةَ المتفضّلِ فقالتْ : يمـينُ اللهِ مالَكَ حِيلةٌ وما إنْ أرى عنك العمايةَ تنجلي خرجتُ بها تمشي تَجرّ وراءَنا عـلى أثَََرَيْنا ذَيلَ مِرطٍ مُـرحّلِ .................................................. ............ إذا قلتُ هاتي نوّليني تمايلتْ عليَّ هضِيمَ الكشحِ رياّ المخلْخلِ لنجده يسترسل بمحاورة فاطمة بمزيد من الجمل الحوارية محاولاً استدراجها لبغيته وإقناعها لإجابته، ولكنه لم يستطع بادئ الأمر إلا عندما شرع بالحركة نحوها (فجئت...)، عندئذ تحدثت باقتضاب حديث الراغبة المتمنعة، حيث ينّم عما تبطنه من مشاعر تجاهه، فهي لم ترفضه لذاته وإنما لأنه لم يتخفَّ عند زيارتها من عيون الناس الذين حولها، بدليل الأبيات التالية لقولها التي بدت فيها خاضعة مستسلمة لما يريد، وعلى الرغم من قصر الحوار مقارنة بطول الحكاية التي انطوت عليها معلقته، إلا أنه ومع مقاطع الحوار الأخرى التي تخللتها، نهض بدور كبير حيث أبعد النص عن الاستطالة والسرد الممل، فضلاً عن أنه أدّى إلى تماسكه بسبب خروقاته المتكررة لمنطقة السرد، ولذا فالقارئ لمعلقته مع ما تمتلكه من مقومات فنية أخرى – لا يشعر بطولها. 4- الحوار مع الطبيعة من أكثر الأشياء قرباً إلى نفس الشاعر، وأشدها تأثيراً عليه الطبيعة بمظاهرها المختلفة الصامتة والمتحركة، ولعل من أبرز مظاهر الطبيعة الصامتة الديار أو ما يدل عليها، نحو الطلل، الربع، الرسم، الدّمن... إذ يرتبط بها الشاعر ارتباطاً وثيقاً لأنها رمز للعالم المفقود ( ). وعلى الرغم من أن الوقوف على الديار ومحاورتها يعد نهجاً تقليدياً سار عليه الشعراء القدامى، بيد أنه – هنا – اتخذ مساراً آخر، وذلك لقدم شعر امريء القيس من جهة، ولما يحمله من دلالات تخضع لنفسية الشاعر والظروف المحيطة به من جهة أخرى. ولأن الطلل رمز لوقت سعيد وصحبة جملية، تنعم الشاعر بها في ذلك المكان، ولكن لم تدم طويلاً فسرعان ما فقدها لذا نجد امرأ القيس يتعلق به ويظهر له أعلى درجات الود والعرفان ذلك لأن (أحسن الأشياء التي تعرف ويتأثر لها – هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها،أو التألم منها، أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم، كالذكريات للعهود الحميدة المنصرمة التي توحد النفوس وتلتذ بتخيلها وتتألم من تقضيها وانصرامها) ( ) وهذا ما يمكن ملاحظته في قوله ( ) ألا عِمْ صباحاً أيّها الـطللُ البالي وهلَ يعَمنْ من كان في العُصر الخالي وهـلَ يَعـمن إلاّ سعـيدٌ مُخلّدٌ قـليلُ الهـموم مـا يبيتُ بأوجــالٍ وهلَ يعَمِنْ من كان أحدثُ عَهدِهِ ثلاثين شهـراً فـي ثلاثةِ أحــوالِ يأبى الشاعر إلا أن يبث الروح في طلله الخاوي ويؤنسنه فيلقي إليه بالتحية، ذلك لأن ((نداء غير العاقل في الشعر هو نوع من أنواع الالتفات، الذي يؤنسن الأشياء غير العاقلة)) ( )، فتظهر عندئذ طبيعة العلاقة التي تربطه به. إلا أن هذا الطلل قد تغير (حساً) إذ عفا... نتيجة لتحول أهله عنه، إذ رحلوا بعيداً وتبع ذلك تغير نفسي، فكيف ينعم بعدهم ويهنأ... ويوظف الشاعر هنا (المونولوج) ليشكل صوتاً حياً يشبه إلى حد بعيد ما يسمى بـ (القناع) حسب الدراسات النقدية المعاصرة، الذي يتمثل في إبداع شخصية تتقمص خواطر الشاعر ونوازعه( )، وعلى هذا الأساس يمكن أن نعد الطلل قناعاً اتخذه الشاعر بعد أن أنسنه وبث الروح فيه، فألقى التحية عليه، وحاوره قائلاً (قد تفرق أهلك وذهبوا فتغيرت بعدهم عما كنت عليه، فكيف تنعم بعدهم، وكأنه يعني بذلك نفسه فضرب المثل بوصف الطلل)( ) فينفي الشاعر عن الطلل - القناع النعيم والسعادة، ويؤكد ذلك من خلال تكرار الاستفهام الإنكاري (هل يعمن) ثلاث مرات، وكل هذا صدى لذات الشاعر المفعمة بالحزن والألم ((فالحالات النفسية التي كانت تعتري الشعراء جميعاً، والمشاعر التي كانوا يحسون بها، حين وقوفهم على أطلال الديار كثيرة متعددة، وهي على كثرتها وتعددها تتصف دائماً بالحزن والكآبة)) ( ) ويحاول امرؤ القيس أن يضيف إلى (الدار) سمة الواقعية، ويبتعد قليلاً عن (القناع) فيعرف بها من خلال نسبتها إلى أهلها / صاحبته، وتعيين المكان الذي تقع فيه( ) : يـا دارَ ماويّة بالـحائِل فالسّهبِ فالخبتْين مِنْ عـاقلِ صَمّ صَدَاها وَعَفَا رَسمهُا وآستعجمتْ عن منطِقِ السائِلِ هذه الدار – وإن خاطبها الشاعر / أنسنها، إلا أنها بقيت محافظة على صفاتها الأساسية، وهويتها الحقيقية،فضلاً عن التعريف بها – كما ذكرنا - نجد البيت الثاني يوثق صفاتها، فهي (صماء – عفا رسمها، لم تجب من يسألها / استعجمت)، ولعل هذا ما جعل الشعراء ((يطمئنون إلى صحتها بسبب الرياح الشديدة التي تهيل التراب عليها فتغطيها والأمطار الغزيرة التي تغير معالمها)) ( ) ويتوجه امرؤ القيس بحواره إلى بعض مكونات الطبيعة المتحركة من الحيوانات النافرة التي ألفها من خلال رحلاته المتكررة، ومن ذلك محاورته للذئب إذ يقول( ) : وماِءٍ كلونِ البول قد عادَ آجناً قليل به الأصواتُ في كَـلأٍ مَحْلِ لقيت عليه الذّئبَ يَعوي كـأنّهُ خليعٌ خلا من كلّ مالٍ ومن أهْـلِ فقلتُ له يا ذئبُ هل لك في أخٍ يواسِي بِلا أُثْرى عـليك ولا بُخلِ فقال هــداك اللهُ إنّكَ إنـمّـا دَعــوتَ لما لْم يأتِهِ سَبُعٌ قبـلي فلست بآتيـه ولا أسـتطـيعـه وَلاَكِ آسقنِي إن كان ماؤك ذا فضل فـقلت عَليكَ الحوضَ إني تركتهُ وفي صَفوِهِ فَضلُ القَلوصِ من السّجل فـطرّبَ يستعـوي ذئاباً كـثيرة وعـدّيتُ كُل مــن هواه على شُغلِ أقترن وصف الذئب في التراث العربي بالجوع ثم الغدر ( )، ألا أنه في هذا النص لم يكن كذلك، حيث امتلك صفات مناقضة لذلك ((فقلت له يا ذئب...) فطرب يستعوي...))، وهذا يعني أن الشاعر حاول إبعاده عن وصفه الحقيقي ((كذئب)) من خلال أنسنته، إذ امتلك الكثير من الصفات البشرية، ولعل من أبرزها قدرته على الكلام، والتحاور، وحسن التفاهم ليسحبه إلى ذاته تدريجياً ويلغي ما بينهما من حواجز عدائية أزلية وتلك هي رسالة الفن الحقيقي ومن مقومات الإبداع وسر ديمومته. وإنْ اتخذ الحوار – هنا – شكل الحوار الخارجي المباشر، إلا أنه في حقيقة الأمر، لا يعدو أن يكون حواراً داخلياً، تغلغلت المناجاة في أجزائه ليبعث من خلالها رسالة حب ووئام لنفسه وللآخرين. وظائف الحوار: لاشك في أن للحوار في القصة النثرية وظائف معينة، ولعل من أبرزها - كما ذكرنا في بداية البحث – بناء الشخصية، وبناء الحدث، وخلق التلاحم بين أجزاء العمل القصصي. ولكن – هنا – لا نتعامل مع قصة نثرية، بل نتعامل مع حوار في شعر، ويشكل هذا الحوار عنصراً واحداً من عناصر القص وليس كلها، ووسم هذا الشعر بالغنائية، لذا فلابد أن نضع نصب أعيننا طبيعة كل من الشعر والنثر المختلفتين، ذلك بأن الشعر العربي بشكل عام ذاتي، والقصة النثرية موضوعية إذن كيف نتعامل مع هذه الإشكالية ؟ أي كيف نستطيع أن نحدد وظائف معينة للحوار في الشعر من دون أن نلغي خصوصيته أو نغالي في دوره، عندما لا نميز بين الشعر والنثر، ومن أجل ذلك نقول إن الشعر العربي لم يكن غنائياً صرفاً، بل تمتزج فيه الذاتية بالموضوعية معاً، ويؤكد ذلك ما نجده من شعر يتحدث عن الجماعة وقضاياها الموضوعية (العامة) (فالذاتي يشي بالموضوعي) ولا يكاد يخلو أثر شعري من نزعة درامية ( ) ولذا فإنَ العلاقة بينهما نسبية، فليس هناك ذاتية مطلقة عند الشاعر، ولا موضوعية مطلقة، وما يعزز ذلك أننا نجد القصيدة الغنائية حتى بمظاهرها القديمة، تتسع لكثير من العناصر الموضوعية، والقصصية، والملحمية ( ) من هنا يمكن أن نتوصل إلى نتيجة مؤداها، أن هناك ما هو مشترك في النظر إلى الحوار بين الشعر والقصة، ولكن هناك ما هو مختلف أيضاً، وليس في هذا القول من تناقض، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية كل منهما، فنجد أن الحوار الخارجي في القصة (النثرية)، هو الأشيع لأنها تتحدث موضوعياً عن الواقع، أما في الشعر فنجد أن الحوار الداخلي هو الأشيع، لأن الشعر ذاتي مقصور على الأفكار الداخلية للشاعر العربي باعتبار غنائيته الغالبة، أما من حيث الوظائف فنجد أن بناء الشخصية في الحوار النثري هدف ثانوي،أما في الشعر فهو هدف مهم، حتى أنه يتجه أحياناً – لبناء عاطفة محددة، تميز الشخصية أو صفة من صفاتها، كما أن الحوار أكثر ملائمة للشعر، ذلك لأنه يعتمد على الإيجاز والتكثيف. مع هذا علينا أن لا نتوقع أن نجد بناءً متكاملاً للشخصيات أو الأحداث في الحوار الشعري وعلى هذا الأساس نستطيع أن نحدد وظائف الحوار في شعر امريء القيس على النحو الآتي : 1. بناء الشخصية : أ. بناء شخصية المتكلم: يعُدّ الكشف عن الأحاسيس الداخلية للشخصية، ورفع الحجب عن عواطفها، تجاه ما تمر به من حوادث أو تجاه الشخصيات الأخرى، من أبرز وظائف الحوار، وذلك ما يسمى بالبوح أو الاعتراف، بشرط أن يكون عفوياً ومن دون تكلف أو تصنع( ) ويكاد الحوار الداخلي ((المونولوج)) ينفرد بالحديث عن النفس، وذلك عندما يختلق الشاعر أطرافاً عدة ليبوح بوساطتها عما تنطوي عليه نفسه من أحاسيس ومشاعر، مما يرفد النص بطاقات موضوعية، تبعده عن المباشرة والغنائية، ولعل من أبرز هذه الأطراف (ذات الشاعر)، إذ يقول ( ) تَطاولَ ليلُك َبالأثُمـدِ ونامَ الخليّ ولـم تَرقُدِ وباتً وباتتْ له ليلةٌ كليلةِ ذي العائرِ الأرمدِ وذلِكَ من نبأٍ جاءني وأنبئتُه عن أبي الأسودِ يبدي الشاعر بعض المعالم الداخلية لشخصيته، التي هيمن عليها القلق والحزن جراء الخبر الذي ورده عن أبي الأسود،إذ يبدو بوضوح أنه غير سار، ومما زاد من وضوحه وشدة تأثيره الألفاظ (نبأ، الليل، الأسود) إذ أكدت الأولى أهمية الخبر من خلال ورودها مرتين في البيت الأخير وبالصيغة الاسمية والفعلية، وأكدت الأخريان صفته حيث يرمز اللون الأسود إلى الكآبة والحزن( ) وبما يلائم الحالة التي يمر بها الشاعر. وقد أمعن الشاعر في توصيف حالته المأساوية من خلال توظيفه لبعض الأساليب البلاغية وببراعة عالية لتبين هواجس النفس وآلامها إذ تضافرت الصور الكنائية (تطاول ليلك)، والمجازية (باتت له ليلة) /نبأ جاءني)( ) والتشبيه (كليلة ذي العائر) فضلاً عن المطابقة ((نام الخلي – لم ترقد)) – لترسم وبإتقان تلك الحالة المأساوية التي انطوت عليه نفسه ويكشف امرؤ القيس عن بعض المعالم الداخلية والخارجية معاً، لشدة ترابطهما من خلال الحوار الخارجي ( ) يا ابنة الكنديّ إمّا تعـجبي من فتىً لاقى سروراً واغتربْ وَتَريني الـيومَ فيكمْ راغباً ساكناً في الوحشِ مُنبتّ الأرَبْ أنشُدُ الناس كـأني فيـهمُ شارفُ السنّ معرّى من جَرَب وإن اتخذ هذا الحوار شكل الحوار الخارجي، إلا انه أقرب إلى المونولوج / المناجاة، وذلك لطوله وسعة مضمونه، إذ بدا فيه الشاعر مغترباً على الرغم من السرور الذي أحاطه، مما دعا المخاطب / ابنة الكندي للعجب من المتناقضات التي كان يعيشها. ويشترك المخاطب – أحياناً – في رسم معالم شخصية المتكلم الداخلية وذلك عندما لم يستطع المتكلم الإفصاح عن كل ما تنطوي عليه نفسه من مشاعر وأحاسيس تجاهلاً منه بأهميتها أو متعمداً في إخفائها خشية من شماتة العذال ( ) : - وقوفاً بها صحبي عليَ مَطيَّهم يقولون لاَ تهلكْ أسىً وتجمَّلِ يفهم من هذا أن الشاعر كان في حالة بائسة، تدعو للشفقة، لذا جاء صوت الأصحاب يدعوه للصبر على ما ألم به من هموم، ومآسٍ، وقد شفع هذا الصوت بأسلوبي النهي والأمر الدالين على التحذير ليعبرا بدقة عن الحالة المأساوية التي يمر بها. كما يفصح المخاطب / الحبيبة عن بعض المعالم الداخلية والخارجية لشخصية الشاعر في وقت واحد لترابطهما الوثيق، ذلك ما نجده على لسان سليمى ( ) قالتْ سُليمى أراك اليْومَ مُكتِئباً وَالرّأسَ بَعدِي رَأيتُ الشّيب قد عابهْ فالكآبة التي خيمت على وجه الشاعر – رغماً عنه – تعبر عن الصراع الداخلي الكامن في نفسه، والناشئ عن اشتعال الشيب في رأسه وكل هذا أخبرت به سليمى عندما قرنت بين الملامح الخارجية والأحاسيس النفسية (الداخلية) إذ ثمة علاقة وثيقة تربط بين المعالم الخارجية والداخلية للشخصية فكلّ منها تعكس صورة الأخرى وتدلل عليها ذلك لأنه يمكن (أن يكشف ما هو كامن تحت ما هو ظاهر، وما هو خفي تحت ما هو واضح) ( ) ولا سيما في الشعر، ومن هنا يمكننا الكشف عن الأحاسيس الداخلية من خلال بعض المعالم الخارجية حتى وإن كانت عارضة : ( ) عَيْناكَ دَمـعُها سِـجالُ كأنّ شأْنيْهـما أوشَالُ أو جدوَلٌ في ظلالِ نَخلٍِ للماءٍ من تَحتِهِ مَجَالُ من آل لـيلى وأينَ ليلى وخيرُ ما رُمْتَ ما يُنَالُ فالشاعر يخاطب نفسه، ويفصح من خلال ذلك عن بعض معالم شخصيته الخارجية، فعيناه تهملان، حتى كونتا جدولاً دائم الجريان، فضلاً عن إفصاحه ضمناً عن حالته النفسية (الداخلية)، البائسة، جراء بعد ليلى عنه.إذ بالغ في وصفها من خلال التشبيه التمثيلي. ب – بناء شخصية المخاطب : يلاحظ في هذا النوع من الحوار، أنه يتجه - في الغالب – إلى بيان بعض المعالم الخارجية لهذه الشخصية ويندر أن يبين الأحاسيس أو المشاعر الداخلية لها، وذلك لصعوبة الوصول إليها، أو معرفتها،كما أنه يتقاطع مع الوصف الذي يميل إلى الاستطالة والاستطراد ولذا كان نادراً في حوار امري القيس، ولعل أبرز معلم خارجي ركز عليه امرؤ القيس في حواره الكشف عن أسم الشخصية (المخاطب)، الذي هو – في الغالب – الحبيبة ( ) أفاطمَ مهلاً بعض هذا التّـدلّلِ وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي وإن كنتِ قد ساءَتك مني خليقةٌِ فسُلّى ثيـابي مِـن ثيـابـِكِ تَنْـسُلِ ِ فاسم فاطمة دلّ على فتاة معينة قصدها الشاعر في حواره هذا وهي فاطمة بنت العُبيد بن ثعلبة من غدرة ( )، ولا شك في أن هذا الاسم أعطى صورة شبه كاملة لها ولاسيما فيما يتعلق بمظهرها الخارجي وذلك لأنها امرأة معروفة، ومما زاد من وضوح صورتها تلك العلاقة التي تربطها بامريء القيس، إذ لوح إلى طبيعتها من خلال مطالبته إياها بالتمهل في تدللها، وتمنعها عليه. وهكذا نستطيع – من خلال الاسم الصريح – تلمس المفاتيح الأولى لعالم الشخصية الذي يضفي حساً مميزاً على الحدث فضلاً عن تعبيره عن ذاتية الشخصية وكيانها الاجتماعي ( ) ج – بناء شخصية الغائب : ويتم ذلك عندما يجري الحوار بين المتكلم (الشاعر)، والمخاطب، ولم يكن احد منهما موضوعاً للحوار، بل وسيلة للإفصاح عن معالم شخصية ثالثة، حتى وإن تضمن – أحياناً – أشارة إلى معالم أحد الطرفين المتحاورين،يلاحظ ذلك في قول امريء القيس ( ) : - خليليّ مُرّا بي على أمّ جُنَدبِ نُقَـضّ لُباناتِ الفؤادِ الـمعذّبِ فإنّكما إن تنـظُراِنيَ سـاعةً من الدّهر ينفعنِي لدى أمّ جُندَبِ ألمْ تَرياني كلما جئتُ طارقاً وجدتُ بها طِيباً وإن لـم تطيّبِ عَقيلـةُ أترابٍ لها،لا دَميمةٌ ولا ذاتُ خـلْقٍ إن تأملتَ جَأنَبِ فالشاعر يحاور خليليه ويطلب منهما أن يمرَا على أم جندب ليتخذ من ذلك مدخلاً للتحدث عنها ووصف بعض ملامحها الخارجية، فهي طيبة الرائحة وإن لم تطيب، أكرم أترابها وخيرهن وليست قصيرة ولا غليظة فإذا ما تأملها الناظر يستحسنها ولا يزدريها. ويتخذ الشاعر من (المونولوج) المناجاة وسيلة للكشف عن معالم شخصية غائبة ذات مساس بحياة الشاعر، تلك هي الحبيبة التي استحوذت على أحاسيسه ومشاعره،يقول ) أشاقكَ مِن آل لَيلَى الطّللَ فقلبُكَ مـن ذِكْـرهِا مُخْتَبلْ فَلاَهي تَعطِفُ مِن وُدّهـا وَلاَ أنتَ تعقِلُ فِـيمن عَقلْ وَصَادتْك غَرّاءُ وَهْـنانَةٌ ثَقَالٌ فَما خالطتْ من عَجَلْ رَقودُ الضّحا سَاجياً طرفُها يُميلّها حين تَمشي الكـسَلْ عظيـمةُ حِلم إذا استنطقتْ تُطيلُ السُكوت إذا لمّ تُسلْ فبعد أن تحدث مع نفسه، وذكرها بليلى، وما فعلت بقلبه، شرع في ذكر أوصافها الخارجية فهي : بيضاء، وقورة ثقليه الردفين ، مدللة لها من يكفيها و يخدمها، طرفها ساكن لم تنظر شزراً،... ويسترسل في ذكر الكثير من أوصافها فيصف عينيها وجيدها وشعرها، وخدها وثغرها وأنيابها وكفها وأصابعها ومعصمها,وبطنها،وخاصرتها وكفلها ونعومة جسمها..( ) موظفاً الأساليب البيانية في ذلك ولا سيما التشبيه والكناية. لقد رسم الشاعر صورة واضحة للحبيبة بمعالمها الخارجية، التي كانت سبباً – كما يبدو- لتعلق الشاعر بها، واستحواذها على لبّه، كما أشار – أيضاً إلى شيء من معالمها الداخلية (عظيمة حلم...)، وتكمن أهمية الملامح الخارجية للشخصية، ولا سيمّا إذا كانت غائبة من حيث أنها واسطة تقرب الشخصية إلى ذهن المتكلم والمتلقي على حدّ سواء حتى يحسّا أنها ماثلة أمامهما ، ومن ثم يحّسا بواقعيتها وبما يحدث لها، فـ ((إذا لم تعرف الشخصيات جيداً بحيث تستطيع أن تشاركها مشاركة وجدانية فلن تعبأ بما يحدث لها)) ( )، وقد يؤدي هذا إلى تخلخل بناء الشخصية وبالتالي إلى عدم الـتأثير في المتلقي. اما هنا فنجد أن الشاعر قد وفق تماماً وأحضر الشخصية (الحبيبة) أمام المتلقي فأحسّ بجمالها وفتنتها وأعطى له العذر لهيامه فيها وتعلقه بها. 2 – بناء الحدث: يعد الحوار من العناصر البارزة في أي عمل درامي سواء أقترن بحدث حسي أو لم يقترن وذلك لأنه يسهم في إبراز الصراع الداخلي ويبعث الحركة النفسية إذ إنه يعبر عن الحركة الحسية مثلما يعبر عن الحركة الذهنية ( )، بيد أن شدة التماس بين الحوار والحدث تختلف حدتها من حين لآخر تبعاً لطبيعة كل منهما وما يؤديانه من إمكانات فنية في لحظة التماس، وبذا يمكننا أن نصنف دور الحوار في بناء الحدث في شعر امريء القيس على وفق التدرج الآتي : أ – الإشارة إلى الحدث قد يشير الحوار إلى الحدث من دون الغوص في تفاصيله، وهذا ينسجم مع طبيعته التي تميل إلى التكثيف والإيجاز، ولا سيما في الشعر الذي هو الآخر يميل إلى التكثيف بحيث يصبح كل منهما متمماً للآخر في أداء وظيفتهما ولا سيما فيما يخص امتلاك النفس الدرامي وتطويره، ويشيع هذا النوع في شعر امريء القيس الغزلي الذي يتحدث فيه عن مغامراته الغرامية التي غدت معروفة عند الناس نتيجة مجاهرته بها ( ) : ألا رُبّ يـومٍ لكَ منهنّ صالحٍ ولا سيـما يـومٌ بـدارةِ جُلُجل ويومَ عـقرتُ للعذارى مطيّتى فـيا عَـجباً من رَحلِهَا المتحملِِّ يَظلّ العذارى يْرتمـِين بلحْمِها وشحمٍ كهُدّابٍ الدِّمـقْس المفـتّلِ ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْر عُنيْزةٍ فقالتْ لك الوَيـلاتُ إنّك مُرجِلي تقولُ وقد مال الغبيطُ بنا مـعاً عَقرتَ بعيرِي يا آمرأ القيس فأنزل فقلتُ لها سِيري وأرخي زمامه ولا تُبـعديني من جَناكِ المــعّلل يذكر الشاعر من خلال حواره مع ذاته، ولآخر بيوم ((دارة جلجل)) ( )، ويكرر لفظة (يوم) للدلالة على أهمية الحدث، الذي حدث في هذا الزمان والمكان. وهذا ما يسمى حديثاً بالارتجاع الذي هو نوع من أنواع المونولوج حيث يعمد الشاعر إلى ((قطع أثناء التسلسل الزمني المنطقي للعمل الأدبي ويستهدف استطراداً يعود إلى ذكر الأحداث الماضية)). ( ) على الرغم من أنه ذكر شيئاً موجزاً عن الأحداث الماضية وما نشأ عنها من صراع جراء النزاع الذي جرى بينه والآخر / عنيزة وصاحباتها إلا أن التفاصيل الأكثر أهمية وما انطوت عليه من صراع أشد لم يذكرها بل أشار إليها من خلال الزمان والمكان اللذين احتضناه ((يوم دارة جلجل)) ذلك ما يمكن تلمسه عند المقارنة بين النص ومناسبة القصيدة ( ) إذ يظهر البون الشاسع بينهما ذلك بأن طبيعة الحوار والشعر لا تسمحان بذلك، ثم الذي يهمه نتيجة الحدث لا تفاصيله ومثل ذلك يقال عن حديث الرواحل الذي أشار إليه في مخاطبته لنفسه ( ) دَعْ عنكَ نَهباً صيحَ في حَجراتِه ولكنْ حديثاً ما حَديثُ الرواحِلِ يشير البيت إلى ((حديث الرواحل))، ولم يفصل في ذلك ولكن عند العودة إلى مناسبة القصيدة نجد سرداً تفصيلياً لهذا الحدث ( ) ب – بناء موقف درامي: ( ) قد يخلق الحوار حالة من التأزم والصراع بين الأطراف المتحاورة انطلاقاً من وجهات النظر المختلفة التي تصل – أحياناً - إلى حد التناقض أو الصراع تجاه موقف معين، ويكون ذلك على مستوى الحس والحركة أو على مستوى الذهن، أي من خلال الصراع الداخلي والخارجي، فالصراع الداخلي ينشأ نتيجة لما تحمله الشخصية من أفكار وأحاسيس متناقضة، أما الصراع الخارجي فينشأ بين ما تحمله من أفكار مختلفة عما تحمله شخصيات أخرى، وفي الحالتين يكون هذا الصراع معززاً للاتجاه الدرامي في النص وهذا ما يظهر جلياً في قصيدة امريء القيس الحوارية التي مطلعها ( ) لمن الديار عفوْنَ بالحبس دَرستْ وتحسِبُ عهدَها أمسِ حيث تتألف من (24) بيتاً شغل الحوار (18) بيتاً منها، بدأها بالسؤال عن ديار فاطمة الدارسة ثم انتقل لمحاورة صاحبتها : وقَضــبتُ قيِّمـها فتكرهُهُ فتقولُ هَلْ بك صَاحِ من مَسّ فأقـولُ مَــسٌ إنَّ مِثلكِ لا يُثنى عَـلَى الزُّمّالة الـنكْسِ فـتقولُ لـيسَ كما تقول ولَمْ يـولَدْ بليلةِ كـوكبِ النّحْسِ فـأقولُ نــحْس إنّهُ رجُـلٌ مـن عُصبة ٍ كأكُولة الرّأس ِ فـتقولُ قـوّادُ الجـياد إلـى أرض الـعدوّ وبـلَدَة ِ البأْس ِ فـأقولُ بل سّواق أفصــِلَة ٍ ترِعِـيةٌ لِصـعـائد ٍ قُـعْس ِ فـتقولُ بــل سوّاق سَلهَبَة ٍ جَـرداءَ مثل خَميصَة ِ البرْس ِ فــأقول بـل لأتان ثلّـتكُِمْ تَنفـي ثَنـايا الـطّلح بالنّهس ِ فـتقولُ بـل حّمـالُ ذي أثرٍ فـي صـَفحةٍ كمجرّة ِ الحلْس ِ فـأقول بــل حَماّلُ أوْفضَةٍ فـيها أقـيْدحُ مَـرْخةِ الجَلْس ِ وقد يطلق على هذا النوع من الحوار ب ((الحوار المجرد)) لأنه يتشكل بفعل موقف وضع المتحاورين على نحو معين داخل المشهد ليقترب في تكوينه إلى حد كبير من المحادثة اليومية بين الناس فهو حديث إجرائي متأسس على رد فعل سريع أو إجابة سهلة أو تبادل كلمات لا تحتمل التأويل المتعدد لأنه إجابات متوقعة عن أسئلة ( ) يتشكل محور الصراع بين الطرفين عندما يسم الشاعر زوج فاطمة بالقبح وهي ترفض ذلك وتنعته بالجنون، وهكذا يمضي بذكر المزيد من مثالبه وهي في كل مرة ترده وترفض قوله بذكر مآثر زوجها بما ينقض قوله، فتتصاعد وتيرة الصراع بينهما، ويبدو ذلك جلياً في البيت الثالث، عندما تنفي كل ما يقوله : ((فتقول ليس كما تقول...)) وهكذا يستمر الصراع بفضل الطباق / التضاد إلى ذروته، لاستمرار الخلاف والتصادم إلى أن نصل إلى أواخر أبيات القصيدة حيث يخفت ويتلاشى عندما تصف قوله بالصدق ( ) : فأقولُ إن الحيّ أعـجَبُهمْ دُهْمٌ تساقٌ كجُدَّة الغَرس ِ فتقول إنّك قد صَدقتُ فَما يُلفى لنا مِثلان في الإنْسِ ِ وهي وإن صدقتَه وأكدت قولها بمؤكدين (إن وقد) مما يوحي بانتهاء الصراع كاملاً، إلا أن ما جاء بعد هذين البيتين رداً من الشاعر وكان خاتمة للقصيدة ينفي ذلك ) فأقولُ أنت ِ من النّساء ولا يقبلنَ إلاّ خُطّة الوكس ِ ولعل هذا يعود لطبيعة الصراع الذي دار بينهما، وما نشأ عنه من تعقيدات، ذلك لأن هناك نوعين من الصراع : صراع خارجي، كالذي دار بين الشاعر وهذه المرأة الذي انتهى كما بدأ لنا آنفاً ؛ وصراع داخلي يدور في دواخل النفس من خلال ما تنطوي عليه من أحاسيس ومشاعر متناقضة، كالذي أفصح عنه الشاعر في البيت الأخير. ومما زاد من تأجج الصراع وإبراز معالمه، اجتماع المطابقة والتكرار والموازاة معاً في هذه القصيدة الحوارية، مما أدى ذلك إلى رفع كفاءة المستوى الانفعالي / الدرامي في الحوار، وجمال إيقاعه، فضلاً عن تنوع دلالته : ( ) فأقولُ بل سواق افصلة... فتقول بل سواق سلهبة فأقول... فتقول بل حمّال ذي أثر... فأقول بل حماّلُ أوفضة... فتقول بل ولاّجُ أخبية وعلى العذارى... فأقول بل ولاج أخبية ٍ وعلى الإماء... فتكرار أشطر بكاملها سوى الكلمة الأخيرة، حقق مفاجأة للقارئ ومفارقة مثيرة، ففي الوقت الذي يتوقع القارئ أن يتطابق الشطران تماماً، يكسر أفق توقعه باختلاف اللفظتين الأخيرتين منهما، بل وتضادهما مما صعد من وتيرة المشهد الدرامي، ليعوض عن السرد الذي خَفُتَ في القصيدة. وقد يطال التكرار الشطر الأول وجزءاً من الشطر الثاني، كما في البيتين الأخيرين من النص / الشاهد، وهنا تزداد المفاجأة حدةً، ويكسر أفق التوقع بأشد مما سبق، ويتلو ذلك شدة في الصراع والتأزم، بما يتوافق وحال المتحاورين أما تكرار لفظتي (فنقول – فأقول) وتناوبهما فعزز صورة التضاد التي بني النص عليها وميزت أطراف الصراع، وحددت موضوعه، ومهدت لتداخل هذه الظواهر معاً. وجاء التوازي من خلال تشابه التراكيب النحوية في هذه الأشطر وعلى النحو الآتي: حرف + فعل + فاعل (ضمير مستتر) + حرف + مضاف + مضاف إليه ف + أقول/تقول + أنا/هي + بل + سواق + أفصله / سلهبة وهكذا... وتمثل دالة التكرار والتضاد (الطباق) مرتكزا ًاستند إليهما التوازي في عملية انتظام النص وتأسيس أفكاره، ذلك ل ((أنه عنصر تأسيس وتنظيم في آن واحد)) ( )، حيث أسهم في تنظيم فكرة الصراع وبلورتها بفضل تنوع الأشكال والدلالات الصوتية والنحوية( ). مما أدى إلى خلق كثافة إيقاعية أسهمت هي الأخرى في تكوين ما يمكن تسميته ب((إيقاع الحوار))، الذي أنعكس على فضاء القصيدة وسرعة إيقاعها، ذلك لأن إيقاع الحوار يميل إلى السرعة لكونه يقوم على عنصر الحديث الذي يحمل أسئلة وإجابات أو (تبادل في الكلام)، بينما يميل إيقاع السرد إلى البطء والهدوء، كما أن سرعة الإيقاع ترتبط بنوع المحاورة فكلما((كان الحوار محتدماً ثائراً بالانفعالات كان الإيقاع السريع أكثر بروزاً))( ) وهذا ما يمكن ملاحظته في غالب أجزاء هذه القصيدة. 3 – بناء الفضاء : نعني بالفضاء الزمان والمكان اللذين يعدان من العناصر القصصية المركزية، ولا يمكننا أن نتصور عملاً قصصياً يخلو منهما، ويرتبطان مع العناصر الأخرى ارتباطاً وثيقاً ولم يغفل الكثير من الدارسين أهميتهما، فالزمان حقيقة مجردة سائلة لا تظهر إلاّ من خلال فعلها في العناصر الأخرى، وتترتب عليه عناصر التشويق والإيقاع والسببية والتتابع، ويرتبط بالحكاية ارتباطاً وثيقاً، لكونه العنصر الذي يغذي الصراع الدرامي فيها ( ). أما المكان فلا يقل شأناً عن الزمان وتتجلى أهميته، بأنه عنصر فعال يحتضن الأحداث والشخصيات ويمنحهما شيئاً من ظلاله، بما يميزهما عن غيرهما ويرفدهما بأبعاد دلالية وفنية، تؤسس للبناء القصصي كما أنه الإطار الذي يشد جزئيات العمل كله( ). وقد برّز الحوار في شعر امريء القيس هذين العنصرين ولا سيما في شعره الغزلي، الذي ضمنه بعض مغامراته الغرامية ليعزز بهما النفس الدرامي / القصصي الذي أمتلك زمام ريادته في عصره ويمكن ملاحظة ذلك في محاورته ل (الليل / الزمان) ( ) :- فقلتُ له لمّا تمــطّى بجوزِه وأردفَ أعـجازاً وناءَ بكَلـكل ِ ألا أيّها الليلُ الطويلُ ألا أنْجلي بصبحٍ وما الإ صباح فيكَ بأمثل ِ فيالكَ من ليل ٍ كـأنّ نـجومَهُ بـكلّ مُغارِ الفتْل شُـدّتْ بيذبُل كأنّ الثريا عُلّقتْ في مَصامِها بـأمراس ِ كتّان ٍ إلى صُمّ جَنْدَل وقد أغتدِي والطّير في وُكنُاتِها بمـنجردٍ قـيْدِ الأوابدِ هَـيكل ِ يبدأ الحوار بعد تمهيد موجز مكثف انطوى على صورة استعارية جعلت من الليل كائناً حياً يسمع ويتكلم، إلا أنه لم يتكلم بلسانه بل ببعض أعضائه من خلال حركتها (أمتد بجوزه، ناء بكلكل، أردف أعجازاً) فهذا الحوار الحركي – إن صح التعبير – حرض الشاعر على الرد عليه بلهجة تنسم بالشدة والعنف من خلال أسلوبي النداء والأمر المجازيين. فالليل - هنا – معادل موضوعي للهم والحزن بقرينته الكنائية،ودلالة لونه حيث وسمة الشاعر بالطول (ألا أيها الليل الطويل...)، وقد بالغ في ذلك من خلال الصورة الحسية التي انطوى عليها التشبيه التمثيلي (فيالك من ليل كأن نجومه...) وتلك في الكنايات الشائعة عند المحبين حيث يسمون الليل بالطول عند فراق الأحبة، وبالقصر عند اللقاء بهم، لذا يدعو الشاعر الليل بالمضي والانكشاف، وتبرز – عندئذ المفارقة المخيبة للآمال – والتساؤل المثير، ماذا بعد زوال الليل؟ وتأتي الإجابة سريعة (... وما الإصباح منك بأمثل) ولا جديد في ذلك ولم يتغير من الأمر شيئاً، فلا يزال الشاعر محملاً بالهموم في ليله وصباحه. فالحوار أدّى دوراً مهماً في الكشف عن الزمان / الليل وتشخيصه ويمكن أن نطلق على هذا النوع من الحوار (الحوار الشخصزماني) إذ قرن بين الشخصية والزمان مما أدّى إلى تفعيل دوره في الكشف عن حالة التأزم النفسية التي يعاني منها الشاعر والتي كان من نتيجتها أن يمتطي فرسه ويتجه صوب الفلاة باكراً (وقد أغتدي والطير في وكناتها) أما المكان فيبرز هو الآخر في شعر امريء القيس ولا سيما حواره على نحو لافت للنظر مما يعزز أهميته، ويدلل على أنه الحاضن الرئيس لكلّ الأحداث مهما صغرت أو كبرت، وليس غريباً هذا على شاعر مثل امريء القيس المعروف بكثرة حله وترحاله، فضلاً عن مغامراته ولعل أبرز ما يطالعنا بهذا الصدد مقدمة معلقته إذ يقول : ( ) : قِفا نبكِ من ذكِرى حبيبٍ ومَنزِلِ بِسقْطِ اللّوى بين الدّخولِ وَحَوملِ ِ فتوُضِحَ فالمِقْراة ِ لم يَعْفُ رسمُها لِـما نسجتْها من جَنُوبٍ وشَمأل ِ تَرَى بَعرَ الأرْآم فِيِ عَرَصـَاتها وقيِــعانها كأنّهُ حَـبّ فُلُـفْل ِ يلاحظ مدى احتفال الشاعر بالمكان من خلال ذكره لأمكنة عدة أرتبط بها بعلاقة حميمة، لذا دعا صاحبه للوقوف عليها، وإمعاناً في حبها والوفاء لها شرع بوصفها وما حلّ بها مستعيناً بالتشبيهات المستوحاة من طبيعة الحياة التي عاشها. ولا شك في أن هذه الأمكنة أثارت في نفسه الكثير من المشاعر المتناقضة، والمتسمة بالفرح والأمل حيناً، وبالحزن والتشاؤم حيناً آخر، وهذا ناشئ عن طبيعة المكان وما كان عليه بالأمس،حيث كان مفعماً بالحياة مليئاً بالنشاط، عامراً بالأهل والأحبة والأصحاب، أما اليوم فقد خلا من كل ذلك، ولم يبق فيه سوى الآثار الدارسة والعلامات الواهنة. ويجمع الشاعر – أحياناً – بين الزمان والمكان وهذا ما يشيع في شعره وحواره إذ يقول ( ) : حَيّ الديارَ التي أبلى مَعَالَمها عواصفُ الصّيفِ بالخرجاء والحقِبُ جَرّ الزمان عَليها ذَيلَ حُلّتِه ِ وفي الزّمان ِ وفـي تصريفه عَجَبُ كان الجميعُ بها حيناً ففرّقهُمْ دَهـرٌ يُشتّتُ أهـل الـوُدّ مُنشعبُ يخاطب الشاعر نفسه ويأمرها بتحية الديار التي عفت معالمها، فيحدد مكانها (بالخرجاء)، ويشير إلى الزمان الذي فعل فعله فيها من دون تحديد دقيق له (حقب، الزمان، حيناً، دهر)فهذه المسميات وتكرار بعضها(الزمان)مع المجاز( ) الذي أقترن به أسهمت كثيراً في هيمنته على مفاصل النص / القصيدة فما زاد من تفعيل دوره وتنويع دلالاته. وتهيمن الذاكرة – هنا- بفعلها المتجدد أبداً لتسجيلها الأحداث تسجيلاً حياً ينسحب إلى الواقع بايجابية نتيجة لتكدسها ورسوخها في الذهن فهي لا تزول بتقادم العهد بل تسجل بتراكم على الانطباعات القديمة ومن دون انقطاع، ولذا تتشعب عملية التذكر فنجد عملية للتذكر البصري والسمعي أو الحركي أو الانفعالي ( ) وتتحدد صورة المكان / الدار وظلالها بفعل الزمان والمعطيات الأخرى من خلال مقارنة الشاعر – بصرياً – بين صورتيها المتضادتين في الماضي والحاضر، واستحضاره – سمعاً – لصوت هبوب عواصف الصيف وهي تذري الرمال عليها، فضلاً عن استذكاره لحركة أهلها ورحيلهم، بعد أن كانوا ساكنين فيها (كان الجميعُ /... ففرقهم...)، فنجم عن كل ذلك إحساس بالحزن والألم، جراء هذه الفعاليات النفسية المتداخلة. وهكذا يضفي كل من المكان والزمان ومن خلال الحوار الذي كشفهما عن بعد موضوعي ليمهد للسرد الذي تلاهما. الهوامش (1) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة : 78. (2) ينظر : معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية : 35، والحوار القصصي : 56، وفن الكاتب المسرحي : 218. (3) معجم المصطلحات الأدبية : 205. (4) فن الأدب : 148. (5) ينظر : فن القصة : 112، ودراسات في القصة العربية الحديثة : 35، والنقد التطبيقي التحليلي : 71. (6) ينظر : نظرية الأدب : 297، ونظرية الأنواع الأدبية : 1/ 28، وموسوعة نظرية الأدب : 1 / 81. (7) مجلة الفكر العربي المعاصر، الشعر والفن الروائي، جبر إبراهيم جبر العدد (44، 45) 1987 : 20. (8) تطور الشعر العربي الحديث في العراق : 357. (9) تحليل الخطاب الروائي : 67. (10) الحوار القصصي : 92. (11) فن القصة : 75. (12) أدوات جديدة في التعبير الشعري : 31. (13) ديوان امريء القيس : 56 –60-، قو وعرعر : موضعان، الأفلاج : الأنهار، تيمر: موضع، دوم : شجر يرتفع في السماء كالنخل. (14) أنه خبر ابتدائى لخلوه من المؤَكدات. (15) المثل السائر في أدب الشاعر والكاتب : 2/ 169. (16) أقنعة النص : 58. (17) المصدر نفسه : 62. (18) أسلوبية البناء الشعري : 107 (19) ديوانه : 63. الجسرة : الناقة النشيطة، الذّمول : سير سريع، هجّر : من الهاجرة وشدة الحرّ. (20) المصدر نفسه : 301، الخرجاء : موضع. (21) المصدر نفسه : 236 الحمول : الأبل التي عليها الأحمال والهوادج،جانب العزل : موضع. (22) ينظر ديوانه 63، 204، 213، 296. (23) المصدر نفسه : 89 – 109 العقابيل : وجع في الفؤاد، كُلى الشعيب : المزادة، تهتان : السيلان. (24) ((قيل خاطب صاحبيه، وقيل بل خاطب واحداً وأخرج الكلام مخرج الخطاب مع الاثنين، لأن العرب من عادتهم أجراء خطاب الآثنين على الواحد والجمع)) شرح المعلقات السبع : 7. (25) ينظر ديوانه : 41. (26) ينظر المصدر نفسه : 281. (27) المصدر نفسه : 65 - 66، الفرانق : الذي معه، دليل أو غيره. (28) ديوانه : 197. (29) المصدر نفسه : 101. العرس : من التعريس، وهو نزول المسافر ساعةًمن الليل، ذي المخلوجة : الأمر المخنلج حقيقته، المُتلّبس : المختلط المشكل الذي يتنازع فيه (30) ديوانه : 259. (31) ينظر : علم المعاني : 125. (32) ديوانه : 230. (33) دينامية النص : 116. (34) ديوانه : 11 – 12، الخدر : الهودج، مرجلي : أمشي راجلة، الغبيط : قتب الهودج. (35) ديوانه : 12 – 15. (36) المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي : 207. (37) منهاج البلغاء وسراج الأدباء : 21. (38) ديوانه : 27، الأوجال : جمع وجل وهو الفزع (39) أقنعة النص : 53. (40) دراسات في الشعر المعاصر – القناع – التوليف – الأصول : 13. (41) ديوان امريء القيس : 27 هامش (1). (42) شعر الوقوف على الأطلال : 180. (43) ديوانه : 119. الحائل : موضع، السهب : المستوي من الأرض، الخبتان : أرض فيها لين،استعجمت : لم تتكلم. (44) وصف الطبيعة في العشر الأموي : 280. (45) ديوانه: 363 – 264، أخوه : يعني نفسه، طرّب : عوى، أستعدى : دعا ذئاباً كثيرة. (46) مجلة المورد، قراءة عصرية في أدب الذئب عند العرب، د. عناد غزوان، مج 8 ع 1، 1979 : 81. (47) الأصول الدرامية في الشعر العربي : 14 (48) الصوت الآخر : 270. (49) فن القصة : 112 وينظر : دراسات في القصة العربية الحديثة : 25. (50) ديوانه : 185. الأثمد :أسم موضع، العائر : الذي يجد وجعاً في عينه. (51) الألوان وتأثيرها في النفس : 30. (52) باتت له ليلة يعني ليلة بائتة كما يقال ليل نائم وأنما قيل ذلك لأنه يبات فيها وهذا من المجاز العقلي علاقته زمانية، و(نبأ جاءني) من المجاز العقلي – أيضاً– وعلاقته سببية فما حدث له من رمد سببه النبأ الذي أنبأ به (53) ديوانه : 294، المنبت : المنقطع، الأرب : الحاجة، معرّى : من العرّ وهو الجرب. (54) المصدر نفسه :9. (55) المصدر نفسه : 346 (56) عالم الرواية : 153. (57) ديوانه : 189. سجال : أي صب من بعد صب، الوشل : الماء القليل،مجال : جولان. (58) المصدر نفسه : 12 – 13، وينظر : 41، 61. (59) ينظر : المصدر نفسه : 12. (60) مدخل إلى نظرية القصة : 148. (61) ديوانه : 41. لبانة : الحاجة، عقيلة أتراب : خير أترابها، الدميمة : القصيرة، الجأنب : الغليظة اللحم القصيرة. (62) ديوانه : 296، الغراء : البيضاء، الوهنانة : ذات الوقار، الثقال : التي أثقلها ردفها (63) ينظر المصدر نفسه 296 – 298. (64) الفنان في عصر العلم : 23. (65) النقد الأدبي الحديث : 614. (66) ديوانه : 10. (67) دارة جلجل : موضع يقال له الحمى. (68) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة : 97. (69) حدّث الفرزدق عن جده، أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عم له يقال لها عنيزة، وأنه طلبها فلم يصل إليها... حتى إذا كان يوم الغدير – وهو يوم دارة جلجل احتمل الحيّ متقدمين وخلفّوا النساء والخدم، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف عن رجال قومه، فكمن في غيابة من الأرض، حتى مرّت به فتياتٌ فيهن عنيزة فلما وردن الغدير نحيّن العبيد عنهن وتجردن ودخلن الغدير،فخاتلهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن فحملها، وأقسم ألاّ يُعطِى جارية منهن ثوبها حتى تخرج كما هي فتأخذ ثوبها، فأبين ذلك حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يُردْنه فخرجت أحداهنّ فوضع لها ثوبها فأخذته، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة، فناشدته أن يطرح لها ثوبها فأبى عليها، فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة فأخذت ثوبها فلبسته، فأقبلن عليه فقلن عذبتنا وجوعتنا، فقال إن نحرت لكنّ راحلتي أتأكلن منها، قلن نعم... ونحرها وأجج الخدم ناراً،فجعل يقطع لهن اللحم، فيرمينه على الجمر ويسقيهن من زكرة (زق صغير يجعل فيه الشراب) كانت معه ويغنيهنّ حتى شبعن وطربن، فقالت أحداهن أنا أحمل طنفسته، وقالت أخرى أنا أحمل زكرته، وقالت أخرى أنا أحمل حشيَته وأنساعه، وبقيت عنيزة لم يحملنهّا شيئاً فقال لها : يا بنت الكرام ليس لك بد من أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي فحملته على غارب بعيرها، فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها ويقبلها فإذا امتنعت أمال خدرها، فتقول : يا امرأ القيس عقرت بعيري فأنزل، فسار معهن حتى إذا كان قريباً من الحي نزل، فأقام حتى جنّ الليل ثم أتى اهله ليلاً. ديوان امريء القيس : 10. (70) ديوانه : 94. (71) جاء في مناسبة القصيدة أن امرأ القيس نزل على خالد بن أصمع النبهاني، فأغار عليه بنو جُديلة، فذهبوا بإبله.. فلما أتى امرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره خالد فقال له أعطني رواحلك ألحق القوم فأدرك إبلك. فأعطاه رواحله فلحقهم فقال يابني جديلة، أغرتم على جارى قالوا : والله ما هو لك بجارٍ، قال بلى والله ما هذه الإبل التي معكم إلا كالرواحل التي تحتي، فأنزلوه عنها، وذهبوا بها أيضاً فلما رجع إلى امريء القيس تحول امرؤ القيس عنه فنزل على جارية بن مرّ بن حنبل أخي بني ثعل فأجاره وأكرمه فقال يمدحه ويمدح بني ثعل بهذه القصيدة التي ذكرنا مطلعها (ديوان امريء القيس : 94). (72) الدراما : مصطلح إغريقي أول من أستعمله أرسطو ثم شاع في الأدب الأوربي ليدل على عدد من المعاني، التي تميز جنساً أدبياً قائماً على الفعل والصراع والحركة والشخصيات والحوار، نشأ من امتزاج الشعر والملحمة إذ تقوم الدراما على التوفيق بين عناصرها المتعارضة بين الموضوعية القصصية الملحمية والذاتية الغنائية، وتبرز أهمية الحوار في الدراما من أنه يعبر أصدق تعبير عن الشخصيات الدرامية، فضلاً عن وظيفته في خلق الصراع والتوتر الدراميين. ينظر معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية : 135 ومجلة الثقافة الأجنبية , (تقسيم الأدب إلى أنواع)، ق. ك. بيلنسكي، ت : جميل نصيف التكريتي العدد :4 سنة 1980 : 29. (73) ديوانه:244 - 247 قضبت : قطعته بالكلام القبيح، قيمها : زوجها، الزمالة : الجبان، النكس : الضعيف، النحس : الشؤم، أكولة الرأس : يريد بذلك القلة، أفصلة:جمع فصيل،ترعية:صاحب رعي،الصعائد:الناقة التي تعطف على ولد غيرها،القعس:الطوال،السلهبة:الطويلة من الخيل،جرداء:قصيرة الشعر، الخميصة : شقة أو ملاءة، البرس : القطن، الأتان : الأنثى من الحمير، الثلة : الجماعة من الغنم،النهس: الأكل، ذي أثر : السيف، صفحته : عرضه، الحلس : كساء مخطط، الأوفضة: الجعاب، أقيدح: السهم الصغير، المرخ : شجر، الجلس : نجد. (74) الحوار القصصي : 56. (75) ديوانه : 247. الدهم : الخيل، الجدة : الأبل السود، الغرس : النخل. (76) ديوانه : 247، الوكس : النقص، الخطة : الخصلة. (77) ديوان : 245 – 236. (78) التلقي والتأويل مقارنة نسقية : 149. (79) قضايا الشعرية : 106. (80) القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية : 43. (81) بناء الرواية : 26. (82) الرواية والمكان : 15، والقصة العربية في العصر الجاهلي : 387. (83) ديوانه : 18 – 19، تمطى : أمتد، بجوزه : بوسطه، ناء بكلكل : نهض بصدره، المغار : الشديد الفتل، يذبل : أسم جبل، مصامها : مكانها، الأمراس: الحبال، الوكنات : مواضع تأوي إليها الطير، المنجرد : الفرس القصير الشعر، الاوابد : الوحش، الهيكل : الفرس الضخم. (84) ديوانه : 8. (85) ديوانه : 301، الحقب : السنون. (86) المجاز – هنا – عقلي لأنه أسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي إذ أسنده إلى زمن وقوعه، فالزمان لم يقم بالفعل وإنما الأحداث التي وقعت فيه، ينظر الإيضاح في علوم البلاغة : 22. (87) الحب بين القلب والدماغ : 49 – 50. وينظر شعرية القصيدة العربية الحديثة : 189 المصادر والمراجع - أدوات جديدة في التعبير الشعري، علي حوم، دائرة الثقافة والأعلام، الشارقة، ط1، 2000. - أسلوبية البناء الشعري ((دراسة أسلوبية الشعر سامي مهدي))، أرشد محمد علي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1999. - الأصول الدرامية في الشعر العربي، د. جلال الخياط، دار الرشيد، بغداد. - أقنعة النص، سعيد الغانمي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991. - الألوان وتأثيرها في النفس وعلاقتها بالفن، محمود شكر محمود، مطبعة أفسيت، بغداد، ط 1،1938 - الإيضاح في علوم البلاغة، أبو عبدا لله جلال الدين محمد بن سعد الدين عبد الرحمن القزويني، تحقيق لجنة من أساتذة كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر مطبعة السنة المحمدية، د. ت. - بناء الرواية ((دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ)) د. سيزا أحمد قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984. - تحليل الخطاب الروائي (الزمن، السرد، التبئيير)، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1989. - تطور الشعر العربي الحديث في العراق، د. علي عباس علوان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد. - التلقي والتأويل، مقارنة نسقية، د. محمد مفتاح المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط 1، 1994. - الحب بين القلب والدماغ، د. نوري جعفر، سلسلة الموسوعة الصغيرة (290)، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد،1987. - الحوار القصصي، فاتح عبد السلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 3، 1982. - دراسات في الشعر المعاصر (القناع – التوليف والأصول)، عبد الرضا علي، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1995. - دراسات في القصة العربية الحديثة (أصولها اتجاهاتها، أعلامها)، د. زغلول سلام، شركة الإسكندرية للطباعة والنشر، الإسكندرية، 1973. - دينامية النص، محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1987. - ديوان امريء القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط 4، 1958. - الرواية والمكان، ياسين النصير، الموسوعة الصغيرة، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1985. - شرح المعلقات السبع، أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، مكتبة دار البيان، بيروت. - شعر الوقوف على الأطلال (من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث) دراسة تحليلية، د. عزة حسن، دمشق، 1968. - الصوت الآخر (الجوهر الحواري للخطاب الأدبي)، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ط 1، 1992. - شعرية القصيدة العربية الحديثة، د. محمد صابر عبيد، غيوم للنشر، بغداد، 2000. - عالم الرواية، رولان بورنوف، ريال أونيلية، ترجمة نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1991. - علم المعاني، عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1970. - فن الأدب، توفيق الحكيم، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط 2، 1393 هـ - 1973 م. - فن القصة، د. محمد يوسف نجم، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1955. - فن الكاتب المسرحي والإذاعة والتلفزيون والسينما، روجر بسفليد (الأبن)، ت : دريني خشبة، مكتبة نهضة مصر، 1964. - الفنان في عصر العلم، ومقالات أخرى، مجموعة من المؤلفين، ترجمة فؤاد دوارة، منشورات وزارة الأعلام العراقية، بغداد، 1977. - القصة العربية في العصر الجاهلي، د. علي عبد الحليم محمود، دار المعارف، مصر، 1975. - القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، د. محمد صابر عبيد، مطبعة اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001. - قضايا الشعرية، رومان ياكوبسن، ترجمة : محمد الولي، ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، بيروت، د. ت. - المثل السائر في أدب الشاعر والكاتب ضياء الدين بن الأثير، تحقيق د. أحمد الحوفي، د. بدوي طبانة، مكتبة النهضة، القاهرة، 1959. - مدخل إلى نظرية القصة، ((تحليلاً وتطبيقاً))، سمير المرزوقي، جميل شاكر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986. - معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، الجمهورية التونسية، 1986. - معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، سعيد علوش، دار الكتاب العربي، بيروت، مطبعة المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، 1985. - معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، د. إبراهيم حمادة، دار الشعب، القاهرة، 1971. - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، أبو الحسن حازم القرطاجني، تحقيق محمد الحبيب بن خوجة، المطبعة الرسمية، تونس، 1966. - المنهج الأسطوري في تفسر الشعر الجاهلي (دراسة نقدية)، عبد الفتاح محمد أحمد، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1987. - موسوعة نظرية الأدب ((قضايا الشكل والقصص الشعبي البطولي)) يا أي أيسبورغ وآخرون، ترجمة جميل نصيف التكريتي، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد، 1986. - نظرية الأدب، أوستن وارين، رينيه ويليك، ترجمة محي الدين صبحي، مطبعة خالد الطراببشي، ط 3، 1972. - نظرية الأنواع الأدبية، م. ل فنست، ترجمة حسن عون، منشأة المعارف الإسكندرية، ط 2، 1978. - النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، دار نهضة مصر للطباعة، القاهرة، 1977. - النقد التطبيقي التحليلي، د. عدنان خالد عبد الله، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1986. - وصف الطبيعة في الشعر الأموي، إسماعيل أحمد شحاذة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1987. - الدوريات - مجلة الثقافة الأجنبية، تقسيم الأدب إلى أنواع، مقال، ق. ك. بيلنسكي، ترجمة : جميل نصيف التكريتي، العدد (1) بغداد، 1980. - مجلة الفكر العربي المعاصر، الشعر والفن الروائي، جبرا إبراهيم جبرا، العدد (44، 45)، 1987. - مجلة المورد. قراءة عصرية في أدب الذئب عند العرب، د. عناد غزوان، مج 8 العدد 1، 1979.

الأدب العربي القديم

الأدب العربي القديم أقدم أدب حي. ترجع نشأته إلى أكثر من ستة عشر قرناً. نشأ في بادية "نجد" شعراً غنائياً في شكل سمي "القصيدة". ويعد امرؤ القيس الذي وصل بهذا الفن إلى ذروة شامخة، من تلاميذ مدرسة نجد. وظلت القصيدة الجاهلية النجدية في شكلها العام، حتى العصر الحديث، مثلاً أعلى يحتذى. لا نعرف الصور التي تصور المحاولات الأولى، ولكن مدرسة نجد ترجع إلى ماقبل القرن 4. وفي القرن 6، انتشر الشعر من نجد، وقلد في سائر أنحاء الجزيرة، وحمل خصائص محلية، ولكن سلطان المثل النجدي لم يضعف إلا بظهور الإسلام. يختلف شكل القصيدة العربية عن شكل القصائد المعروف في الآداب الأخرى. وتمتاز بأن موضوعها، وهوالمديح، يمهد له بوصف الرحلة إلى الممدوح، ويقدم للرحلة بشعر في النسيب يشكو فيه الشاعر فراق الأحبة. وفي الرحلة يتاح للشاعر أن يصف جواده، أو ناقته، والطبيعة من حوله، وحياة الحيوان وصراعه مع غيره من الحيوانات أو مع الطبيعة. والمدح يتغنى بفضائل الصحراء ويصف حياة الكريم في ضيافته وشربه وحروبه. وأبيات القصيدة عادة من 60 إلى 100، وكلها تلتزم بحراً واحداً وقافية واحدة. والمعلقات عشر أو سبع، هي خير مثال لهذا الشعر. ولاشك أن شعراء ضاع شعرهم سبقوا مدرسة نجد. وقد ساهم بلاط المناذرة وبلاط الغساسنة في تطوير القصيدة، ولكنهما لم يخلقا نوعاً جديداً إلى جوار القصيد النجدي. ولما كانت القصيدة تجمع موضوعات عدة فإنها كانت امتحاناً طيباً لقدرة الشاعر. امتاز قصيد نجد، إلى جانب هذا الشكل العام والموضوعات المعينة، بخصائص ذاعت وقلدت، مثل التركيز في رسم الصورة، وتعميم الفكرة بحيث تصبح في يسر مثلا أو حكمة. وبينما كان وصف المرأة في النسيب عاماً مبهماً كان وصف الحيوان والصحراء واقعياً دقيقاً. ولأن الشاعر يلجأ إلى الصورة المركزة، أصبح محور النقد هو البيت الواحد. ولما كان الشعر لفترة طويلة غير مكتوب، يعتمد على السماع في الرواية، فإن الشاعر لم يستطع أن يركب الصورة أو أن يسرح بالخيال، اعتماداً على تذكر السامعين لأبياته السابقة. ومن هنا تحدد الشعر من حيث الموضوعات والصور، وأخذ يجول حول المعروف والمسلم به، واتخذ الشكل مكانة ممتازة، لأنه المجال الأكبر للتجديد والتنويع. وصلنا عن هذه الفترة بعض مقطوعات ورجز، في وصف الحروب والرثاء، ثم حماسيات يتغنى بها الصعاليك مثل: الشنفرى وتأبط شراً، وهجاء يمثل سلطة شيطان الشعر على الشاعر. تركز اهتمام الشعراء حول الألفاظ، فاكتسب بعضها جمالاً وسحراً ولا توجد في هذه الفترة قصائد خالصة لموضوع واحد، إلا مقطعات قليلة في الخمر. أما الطرديات فمنعدمة، لأن وصف الصيد كان جزءاً من القصيدة العامة. أما شعراء الحضر في الجاهلية، فقد اختلف شعرهم قليلاً من حيث الموضوع والمعالجة، ولكن الذي بقي لنا منه قليل، أشهره شعر عدي بن زيد في الخمر، وشعر أمية بن أبي الصلت الديني. وليس هناك ما يقطع بعدم احتمال كتابته بعض الشعر قبل الإسلام، ولكن الواضح أنه لم يصلنا منه شيء. يشير الفرزدق في شعره إلى ديوان مكتوب للبيد الشاعر. ولكن تدوين الشعر العربي بدأ في القرن 8 أي بعد تأليفه بأكثر من 200 أو 300 سنة، وهذا يفتح باباً كبيراً في صحة هذا الشعر من حيث حجة النص، ونسبته إلى شاعر معين. والنثر من هذه الناحية أوسع مجالاً للشك في صحته، ولكن هناك أدلة على أن تجويد النثر كان معروفا. فلقد وصلت حكم وأمثال تصور فن الإيجاز المتجلى في صناعة القصيد. وهناك إشارات إلى صحف مكتوبة في الجاهلية. وربما كانت بعض الأحكام القضائية تكتب للاطمئنان إلى تنفيذها. وهناك نماذج من الخطابة وضلتنا تمتاز بالإطناب والسجع والمقابلة بين الفقرات المتساوية طولاً، وإذا كانت الفقرات التي أوردها الجاحظ في كتابه "البيان " تدل على مستوى هذا الفن، فإنه من العسير أن تطمئن اطمئناناً كاملاً إلى صحة نصوص هذه الخطب، فقد يصح بعض فقراتها ليس غير. أما المثل، وكان الأحق أن يكون بلهجة القبيلة المحلية لطبيعة وظيفته، فإن الاطمئنان اإلى لفظه أعسر. وقد وصلت عن هذه الفترة أيضاً أحاجي وقصص حيوان، وقصص عن أيام العرب، نشك في نصها ونطمئن إلى وقائعها، وإلى فنية التركيب والبناء، وقد نطمئن إلى بعض فقراتها، وإلى الشعر الذي يحليها. والاطمئنان إلى نصوص عن القبائل الجنوبية أعسر، حتى أنه يمكن الجزم بأن كل هذه النصوص خضعت لتغيرات كثيرة عند التدوين. وجاء القرآن الكريم بالفصحى، لغة قريش، التي سادت قبيل الإسلام، ولم يكن مشبهاً لأي نثر أو شعر قبله، وإن لم يخرج عن الإطار العام للذوق العربي. استعمل طريقة جديدة في القصص، وجاء بالحجج التي لم يألفها العرب في خطاباتهم ولا في قصصهم. ولأول مرة يرى العرب نثراً يخضع الشكل لمتطلبات المضمون، والمعنى على غير ما ألفوا في بيانهم، يستعمل السجع بفن ساحر، كما يكسب الفكرة قدرة على التأثير بذاتها دون أن ترتكز على الأسلوب. وظل القرآن الكريم مثلاً أعلى بإعجازه يتحدى كل محاولات التقليد فكان أثره "خارج نطاق القصيدة" في المجال الأدبي يدور حول ما أيقظ من أفكار، وما أشاع من صور، لاحول الأسلوب بالمعنى الدقيق. وكان للقرآن الكريم الفضل في تخلص الخطباء - فيما عدا علي بن أبي طالب والخوارج والأولين منهم من سجع الجاهلية، واتجاههم نحو الاهتمام بالموضوع والفكرة. كذلك أثر في اتجاهات الخطباء من الحكام والخلفاء واتجاهات الكتاب والوزراء، في سائلهم وتوقيعاتهم، حين نشأت الكتابة أيام سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. في العصر الإسلامي بدأ الشعر يصور التغير الاقتصادي والاجتماعي، الذي نشأ من انتشار الدعوة المحمدية وتكوين الدولة الإسلامية، ففقد الهجاء مركزه الجاهلي، وإذا هو في صورة جديدة، هي المناقضة بين الشعراء أو طوائف منهم. والحماسة تكتسي بالوان الاستشهاد الديني، وخاصة عند الخوارج. والغزل ينفرد بقصائد كاملة في بعض المدن الزاهرة في الحجاز، فيرق أسلوبه باللهجة الحجازية، وبسبب شيوع فن الغناء وتأليف الشعر الغزلي الذي يقصد التغني به. وغزل الحجاز نوعان: نوع قصصي واقعي مرح، يمثله عمر بن أبي ربيعة في مكة، وآخر عذري رمزي حزين محروم، عند الشعراء العذريين في المدينة، مثل جميل والأحوص والمجنون. في هذه الفترة يظهر الشعر السياسي، ويتطور الرجز – من مجرد شعر حماسي لاستثارة المحاربين – إلى ميدان استعراض البراعة اللغوية عند "العجاج"، ويصبح الشعر – دون أن يفقد رونقه ولا فنيته – أكثر التصاقاً بحياة الجماعة، مؤدياً لوظيفته الاجتماعية. وهنا يتوافق الشكل مع المضمون، وتعود القصيدة العربية – بعد توقف قصير المدى في أثناء الفتوح- إلى قوتها، وقد تخلصت من كثير من جمود الموضوع في الجاهلية. نمت القصيدة في العراق والجزيرة، وحمل لواء الشعر في هذه المنطقة جرير والفرزدق والأخطل وذو الرمة، وكان الأخطل أكثرهم تمثيلاً وتنفيذاً للشكل الجاهلي، في شعر الفخر ومدح الأمويين. وصور الفرزدق وجرير فجاجة الحياة البدوية واستعملا الشعر للوصول إلى الثراء، وطورا موضوع القصيدة، وأدخلا فيها تفصيلات من الخلافات السياسية والقبلية، وانتعشت النقائض على أيديهما، وأساسها المفاخرة والهجاء، وركزا مقدرتهما على إبراز معارفهما اللغوية، لإثارة إعجاب مدرسة النقادر اللغويين التي تكونت في هذه الفترة من جامعي اللغة والشعر القديم. وشعر ذو الرمة أمعن في استعراض اللغة، وأجمل في وصف الصحراء تلهب صوره الغزل أحياناً. وبينما كان الشعر الجاهلي يمثل العاطفية والمحدودية، والمستوى الخلقي السامي، كان الشعر الأموي يمثل تضارب القوى، وتصارع المثل في الحياة الجديدة، وخلافات الأحزاب على الخلافة والحكم. وفيما عدا الغزل الذي ظل في مستواه المثالي، فإن الموضوعات الأخرى تنزل إلى مستوى الحياة اليومية. وبالرغم من التمثل بكثير من آيات القرآن، فإن الاتجاه الخلقي يضعف. وقد غص الشعر بما يعجب الجماهير المحتشدة لمشاهدة مباريات النقائض. جمعت دواوين شعراء هذا العصر، إما في حياتهم أو مباشرة بعد مماتهم. وشعر هذا العصر أكثر الشعر العربي القديم صحة، من حيث النص أو نسبته إلى الشاعر. أما شعر العصر العباسي - الذي تبدأ خصائصه في الظهور منذ أواخر العصر الأموي (منتصف القرن 8) – فإنه يمتاز بأنه شعر حضري وبأنه قد ساهم فيه لأول مرة شعراء ليسوا عرباً خلصاء، وكان فحوله من الموالي. وقد أثرت هذه الظاهرة الأخيرة في النثر أكثر من الشعر. وظل الوزن والشكل دون تغيير. وحصر بحور الشعر الخليل بن أحمد (791)، فتجمدت منذ ذاك. لكن اللغة رقت عن لغة البادية، مع احتفاظ تام بالمستوى الفصيح. ولما أوى الشعر إلى بلاط الخلفاء، الذين رعوا الشعر والشعراء، اتخذت القصيدة شكلاً رسمياً مسجلاً، وأصبح هذا الشكل وحده مجال تنافس الشعراء بسبب تمسك الخلفاء بثقافتهم العربية، وبسبب ميل فطري في العرب عامة إلى المحافظة على القديم، ولهذا أصبح مجال التجديد نسبياً. ولكن بالرغم من صرامة الشكل والموضوع، فقد حدث في المعالجة التفصيلية للموضوعات التقليدية، تغيرات تنوع المدح والهجاء، ولكن الغزل كان أطوع في التجديد، فلقد حمل آثار الحجاز في الرقة والغنائية إلى سوريا، حيث تطور على يد الخليفة الوليد بن يزيد (744)، وعندما اختلط بشعر الخمر ووصف مجالس الشراب جاء إلى العراق مع مطيع ابن اياس، ليجد مجالات للتطور في مجالس المجون في البصرة وبغداد، حتى في قصور الخلفاء، وذخر بالصور الجديدة، والروح الماجن الساخر، والحوادث الوقعية البعيدة عما ألف العرب. باحتكاك الثقافة العربية في هذا العصر بتراث الفرس والآراميين الحضاري، نشأ جو فكري حديث أثر في الشعر والنثر، فصورا أفكاراً جريئة، وواقعاً طلقاً متحرراً وإن كان متحللاً خلقياً أحياناً. وظل الشعر الشيعي تقليدياً، وأخرج العراق بفضل ميله إلى الشعر الخلقي والتعليمي – بشر بن المعتم وأبا العتاهية - وجاء العباس بن الأحنف (807) بغزل الفروسية القصير، فجدد في الشكل والصورة كما أدخل أبان بن عبد الحميد اللاحقي (815)م. نوعاً من الرجز، هو المزدوج بشعره التعليمي والقصصي. شعر هذه الفترة غزير كثير مجدد في داخل الإطار التقليدي الثابت. وفي هذه الفترة دخلت الصنعة الشعر، فإن العقل الحضري لم يستطع أن يعوض الشعر عن بداوة العاطفة وصدقها وسموها، فبدأ الجهد يبذل في انتقاء التشبيهات وتوليدها، والتأنق في صور التعبير، فظهر المذهب البديعي حين فشا البديع في شعر الشعراء. وبدأ هذه الحركة بشار بن برد (744)، وهو أول شاعر فحل غير عربي خالص. وينسب إلى مسلم بن الوليد (من الجيل اللاحق لبشار) أنه أول من أفسد الشعر بالبديع. وإن امتدح بعض النقاد مذهبه والواقع أنه أكثر بشكل ملحوظ من استعمال المحسنات البديعية، حتى أصبحت أبرز سمات شعره. والعجيب أن معاصره أبا نواس (803) الذي كان أغزر شعراء العربية إنتاجاً وحيوية وتنوعاً في الموضوعات، لم يتجه إلى الإسراف في البديع مثله. وأحيا أبو نواس الطرديات وروج للخمريات، وتغزل في فحش في الغلمان والنساء. وأخذت الثقافة اللغوية التي ذاعت لدى شعراء هذا العصر تجني على الشعر والذوق، فهبط المستوى الفني وبعد عن الطبيعة والعاطفة وعمت الصنعة في البديع. بالرغم من شيوع الكتابة نسبياً فإن شعر هؤلاء الشعراء أهمل، بسبب عدم حاجة اللغويين إليه في عملية جمع اللغة، واعتبارهم أنه غير موثوق بسلامة لغته لحداثته. وإلى توقيعات الوزراء أو الكتاب، ترجع بذور المقالات الأدبية. وأول من طوع أسلوب الخطابة القديم ليدل على حاجات العصر هو عبد الحميد الكاتب (750) ولم يكمل هذا التطويع إلا عن طريق الترجمة، وهذا ما يحدث في كل اللغات. وبفضل ابن المقفع (757) الذي ترجم عن الأدب البهلوي المزدهر في بلاط الساسانيين، وبفضل من جاؤوا بعده، ذلل النثر العربي. ولا يقلل التغيير الذي أصاب نثر ابن المقفع في التدوين شيئاً من هذه الحقيقة. وهذا الأدب المترجم كان تعليمياً وعظياً، يبين للطوائف الحاكمة المختلفة دورها في المجتمع وآداب مهنتها، في صورة حكم وأمثال وقصص قصار، وسمي هذا كله "أدباً" فنجد أدب الكتاب وأدب الملوك... إلخ، أما القصص الفني، فقد بدأ لدى جامعي الأخبار وسير الغزوات على نحو ما فعل ابن إسحاق في سيرة النبي. كذلك وصلت بعض قصص العشاق في شكل فني. تأثر النثر الكلامي (الفلسفي) بما ترجم من منطق اليونان. وأثر في النثر نشاط اللغويين الذين دأبوا على جمع مادة اللغة االفصحى السليمة، بدافع ديني وقومي، ليحموها من تحريف الموالي ومن انحدارهم بها إلى مجرد أداة للتعبير عن شؤون الدولة في الإدارة والقضاء. وبذلك نشط جمع التراث، ليصبح أساساً لكل العلوم الإنسانية. وبدأ تأليف كتب ضبط اللغة وقواعدها، فألف الخليل "العين" (791) وألف سيبويه (796) "الكتاب"، كما ألف أبو عبيدة (825)، والأصمعي (831). وفي هذا العصر جمع التاريخ. وألف في الفقه الحنفي في العراق (أبو يوسف – 898) والمالكي في المدينة "موطأ" مالك بن أنس (795). ألف الشافعي بعدهما "الأم"، وهو أساس تشريع السنة. وفي فجر القرن 3 كان نثر الدراسات التاريخية والدينية ينافس النثر الفني لكتاب الدواوين. وجاء الجاحظ (769) أبو النثر الحديث برسائله ومؤلفاته العديدة في شتى أبواب المعرفة ليصل بهذه المعلومات، بنثره الممتاز وشخصيته القوية، إلى مستوى عامة المثقفين. ولم تحل مشكلة المواءمة بين نثر العلوم ونثر الكتاب إلا بعد الجاحظ. ونتج عن ذلك استقلال الشعر بالميدان الخيالي البحت، وبعده عن واقع الحياة، وفقد النثر شيئاً من روائه ورونقه وأخذ يعبر عن حياة المجتمع. وللجاحظ فضل اشاعة أثر الثقافة اليونانية التي احتضنها المأمون، وأنشأ لها "بيت الحكمة" لنقلها إلى العربية، وفي منتصف القرن 9 دخل الورق المصنوع في الشرق الأقصى إلى الدولة، فسهل الاتصال بين مراكز الثقافة فيها، من سمرقند، إلى القيروان، إلى الأندلس. قاوم النثر القديم الشعوبية في الأدب، حتى جاء ابن قتيبة (889) فأوجد الحل في مزج الثقافة العربية بكل ما أثر عن ثقافة الفرس. وذاعت الرسائل والأعمال الأدبية التي تصور التقاء الثقافات الثلاث: العربية، الهيلينية، والفارسية، وظهرت الفلسفة العربية الجديدة، بفضل الترجمات التي قام بها ابن لوقا (835) وحنين بن إسحق (873) وابنه إسحق (910). توالى عظماء الفلاسفة المسلمين: الكندي (850) والفارابي (950) وابن سينا (1037)، كما ظهر التأليف في الرياضة والفلك والطب، وإن يكن هذا النثر علمياً، فإنه بأفكاره وأساليبه أثر في تطور النثر الفني. وفي الجغرافيا، كان التأليف ألصق بالفن الأدبي، وظهرت كتب عن مغامرات البحار والعجائب، مقتبسة أو معربة. ووجدت "المكتبة الجغرافية" وأشهر من ألفوا كتبها: الخوارزمي (844) وابن خرداذبة (844). ولمقاومة أثر الفلسفة اليونانية عند المعتزلة، نشط التأليف الفقهي، وخرجت كتب الحديث: البخاري، ومسلم والترمذي، وابن داود، وابن ماجه والنسائي، ثم "مسند" ابن حنبل. نشط الشيعة، كرد فعل لهذه الحركة. وجمع فقهاء الإسماعيلية والأمامية طائفة من "الحديث". ويرى أثر الثقافة اليونانية والفلسفة في الفكر الديني الإسلامي وخاصة أثر الأفلاطونية الحديثة في "رسائل إخوان الصفا". كذلك ألفت كتب في المقارنة بين الأديان. وألف ابن حزم (1064) كتابه "الفصل" ليؤرخ الدين لدى عامة الشعوب. ولم يتأثر الدين الإسلامي عند عامة الشعب إلا بحركة التصوف التي قامت على فكرة الزهد العربية، مع بعض بقايا تعاليم وحركات دينية قديمة في منطقة سوريا. ظهرت رسائل علمية في التصوف خالصة للحلاج، ولذي النون، وللنفاري. وظهر الشعر الصوفي الممتاز الذي ظل منتعشاً لعدة قرون. وبانتشار التأليف العلمي تطور النثر، واستطاع أن يدل على معان دقيقة فلسفية. ولكن ذلك لم يؤثر في عامة المثقفين. وظل الأثر الهليني في العلوم والفلسفة بعيداً عن متناول أكثر الكتاب، ومن القلة التي تأثرت بهذا النثر الجديد، وبالأفكار الفلسفية، فيما ألفت من أدب: السرخسي (889) والتوحيدي (1023)، وابن مسكوية (1030). ولكن التيار العام. بعد ابن قتيبة في التأليف الأدبي، ينحو نحو جمع المجموعات المختلفة المتعددة الموضوعات. ويمثل هذا التيار: ابن المعتز (908)، وابن أبي الدنيا (894)، وابن عبد ربه (940)، والصولي (946)، وأهمهم أبو الفرج الأصفهاني (967) صاحب الأغاني، وكذلك مجموعات التنوخي (994)، والثعالبي (1038). حددت هذه المجاميع ميدان الفكر لدى الأدباء منذ ذاعت بينهم، وقصرته على موضوعات أدبية بحتة. وكانت كتب "المجالس" و"الأمالي" تمثل أسلوباً فنياً أرقى من هذه المجاميع، وأن تكن قد جنحت إلى التعليم. من أشهر كتاب الأمالي: "المبرد"، و" ثعلب" و"ابن دريد" و"القالي". وكان من الطبيعي بعد ذيوع هذه الكمية، من الأدب وعلم اللغة، أن تنشأ البلاغة وقد كانت في أول أمرها أحكاماً خاصة تلقائية على بيت أو شاعر في قصيدة. ولكن الجاحظ وابن المعتز حاولا تنظيم الفكر النقدي بمعالجة موضوع كامل، فعالج الجاحظ الخطابة، وعالج ابن المعتز البديع، حيث رتب أنواع البديع والمحسنات اللفظية لأول مرة. وأدخل قدامة بن جعفر (922) دراسة النعوت والعيوب في الشعر عامة. جاء أبو هلال العسكري (1005) وأدخل دراسة الشعر والنثر من حيث البناء والأسلوب، بلاغة وبديعاً، في كتابه "الصناعتين"، وسادت عنده وعند من قبله فكرة طغيان اللفظ على المعنى، حتى جاء عبد القاهر الجرجاني (1087) فعدل الميزان، وجعل للمعنى مقاماً لايقل عن اللفظ، في كتابيه "الإعجاز" و"المعاني" حيث يبرز نظريته في تعليل الإعجاز بأنه في النظم، أي في علاقات الكلمات في الحملة. ونتيجة لاستمرار سيطرة الصياغة واللفظ، أخذ الأدباء في ممارسة أنواع من التأليف يمارسون فيها السجع بصنعة دقيقة، في "الفصول والرسائل". يعد ابن المعتز أول من روج لهذا النوع من التأليف الأدبي الذي طغى حتى القرن 10، وقلدهم الكتاب، فنشأت صناعة الإنشاء التي صبغت توقيعات الدواوين منذ ذلك الحين، كما في رسائل ابن العميد، والصاحب بن عباد (995). تأثر أيضاً مؤلفو المجموعات الشعرية والأخبار بهذا الأسلوب المسجوع المتصنع، مثلما نرى في "يتيمة الدهر" للثعالبي، و"زهر الآداب" للحصري (1061) وظل هذا الأسلوب مطمح الأدباء، حتى أن أبا لعلاء المعري عالجه ومارسه، رغم اتساع أفقه ووفرة مقدرته على التعبير. وأدى هذا إلى جمود تفاقم أمره في النثر العربي، وأبعد بين الواقع وكتاب هذا النثر المسجوع المتصنع. وقد استعمل هذا الأسلوب بديع الزمان. وهو يبحث عن صور جديدة للتأليف الأدبي فأنشأ مأساة الأديب المشرد الذكي، في تصادمه مع واقع الحياة الظالم الغبي، في شخصية "عيسى بن هشام" في مقاماته. ومنذ تطوير بديع الزمان للمجالس والأمالي إلى مقامة قصصية، أخذ هذا اللون يقلد: قلده ابن شهيد في الأندلس، في "التوابع والزوابع"، حيث تقوم المجالس على مساجلة بينه وبين شياطين الشعراء القدامى. بعد ثماني سنوات ألف أبو العلاء المعري رسالة "الغفران" حيث يساجل الشعراء أنفسهم في الجنة. بجرأة قوية وفكر منطلق. ولكن هذا الأدب الجي لم يلق من الرواج ما لاقت رسالة ابن زيدون في هجاء منافسه ابن عبدون، أو كتاب "كمال البلاغة" لأمير طبرستان، قابوس بن وشمكير. حتى مقامات البديع، لم تذع إلا بعد أن أحيا الحريري (1122) فن المقامة، بما ألف هو أيضاً من مقامات تجلى فيها ذكاؤه، وعلمه باللغة الذي فاق علم كتاب الرسائل وقد ساعدته ملكة شعرية على إتقان السجع. وتعد مقامات الحريري، وبديع الزمان، صورة صادقة للمجتمع الإسلامي وعصرهما، قلما نراها بهذه القوة. وانتشر التأليف التاريخي في هذا العصر، وانفصل عن الأدب وإن تأثر بنفس التيارات. جمع الطبري (923) كل مصادر التاريخ الإسلامي قبله في "سير الملوك"، وكان قد ألفه ملحقاً للتفسير الذي قام به للقرآن. وكذلك استنفد البلاذري (892) المصادر الأولى: (كتب: الأزرقي، والفقيهي، والزبيري، وابن سعد كاتب الواقدي) في كتابه "أنساب الأشراف". وبدأت صور أخرى من التاريخ تظهر نتيجة لانفصاله عن الأدب، كتاريخ المدن "بغداد" لطيفور (893). ولأن المؤرخيين عالجوا موضوعات هامة، كتاريخ العالم، ووصف الرحلات (المسعودي 956) والحياة المعاصرة، وأخبار الحكام، وتراجم أرباب المهن، وأصحاب الوظائف، فقد أصبح التاريخ جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الأديب، يؤثر فيه ويتأثر به. واتجه التاريخ اتجاهين: اتجاهاً علمياً دقيقاً، عند المصبحي، والقرطبي، والبيروني، والخطيب البغدادي، واتجاهاً أدبياً يبلغ ذروته عند دعاة المذاهب الإسلامية، وخاصة الشيعة، عندما يجمعون أخباراً وأقولاً للدعاية للمذهب. ويمثل هذا الاتجاه نهج البلاغة الذي يجمع إلى خطب علي بن أبي طالب البليغة أخباراً وتاريخاً هاماً، يبرر موقف الشيعة، واستكتب بعض ملوك الفرس البويهيين والغزنويين أمثال الصابي، والعنبي، ليكتبوا تاريخ أسرهم. امتاز هذا التأليف بأسلوب مسجوع منمق، مناسب للملوك الذين طلبوا هذا التأليف. ولما عجز الشعراء عن متابعة العلوم الإنسانية والثقافة الفكرية في زمانهم، ضاق أفقهم وعاشوا في محيطهم الضيق. وازداد الأمر سوءاً، حين أصبح مجالهم الأكبر، ووظيفتهم الرئيسية، أن يمجدوا الحكام الذين رعوا الفنون. ومن هنا ضغط سلطان الشكل والتقليد القديم. ومنذ القرن 9 والشعراء يحاولون الفكاك من أسر هذه الكلاسيكية الطاغية. أول هؤلاء كان أبو تمام (846)، الذي حاول التوفيق بين غنائية الشعر الجاهلي، وبديع العصر العباسي، وحمل الشعر طاقات فكرية وصوراً عقلية جديدة، وإن كان معاصره البحتري (897) (الذي تتلمذ عليه ثم قورن به في دراسات عدة) قد ظل محافظاً على التقليد القديم. بشعر أرق وأكثر رواء. وفي العراق حاول ابن الرومي (896) أن يوجد للقصيدة وحدة عن طريق التحليل للصورة وللعاطفة، وأن يجدد في الأسلوب متأثراً بثقافة يونانية، ولكن شعره وإن أعجب الناس لم يقلد، ولم يمتد تياره المتشائم لمن جاء بعده. ويعد ابن المعتز (908) أكثر من أحيا القديم في محاولته التجديد. وأرجوزته (450 بيتاً) في وصف خلافة ابن عمه المعتضد تشهد بذلك حيث نجد مواقف مثل مواقف الرسائل تنظم بالشعر السهل الجميل. منذ القرن 10، دخل البديع عنصراً أساسياً في الخيال الشعري، وكان لابد من شاعر فحل يمزج بين خصائص المدرسة السورية وخصائص المدرسة العراقية، في الشعر، فلم يقم بهذا إلا المتنبي (965) الذي ولد بالكوفة، وكان معجباً بشعر ابن الرومي وابن المعتز، ولكنه تعلم الشعر في سوريا، وعاش في بلاط سيف الدولة الجزء الأهم والأكبر من حياته الشعرية، وقد نافسه أبو فراس (968) في حلب بشعره الغزلي الرقيق كما نافسه ابن هانئ (973) في الأندلس بمدائحه الفاطمية. وقد سار أكثر الشعراء من بعده في نفس التيار، من حيث موضوعات القصيدة وفنيتها، وشهر في هذا القرن: الشريف الرضي (1015)، ومهيار الديلمي في العراق، ولكن أوسعهم شهرة وأميزهم شعراً كان أبا العلاء المعري (1057) في سوريا، الذي بدأ متأثراً بالمتنبي في "سقط الزند"، ثم انطلقت ملكته، فخرج عن الشكل المألوف في القصيدة إلى مقطوعات اللزوميات التي نالت شهرة عظيمة، لما حوته من أفكار سامية، فسيحة الأفق، حرة الانطلاق، ويعد أبو العلاء بشعره ونثره وأسلوب حياته، من أكبر شعراء العربية، إن لم يكن أكبرهم وفي الأندلس كان فحول الشعراء يقلدون شعراء المشرق: فقلد ابن هانيء أبا تمام وقلد ابن زيدون، البحتري، وابن دراج، المتنبي. في هذه الفترة أيضاً شهر ابن حمديس (1132) في صقلية والمعتمد الأمير العبادي (1092) في الأندلس. وأخذ الشعر الشعبي في الأندلس ينتعش في فن الموشحات والزجل. ومنذ القرن 12 إلى أول العصر الحديث نجد تيارين يتحكمان في الإنتاج الأدبي: هما التيار المدرسي، والتيار الصوفي، وكلاهما كان نتيجة حركات السلاجقة في إنعاش مذهب السنية وإحيائه، وبإنشاء المدارس التي أدخل فكرتها نظام الملك (1092) في المدرسة النظامية، طرأ تغيير واضح في التاليف الأدبي، الذي استوحى متطلبات الدراسة المنظمة، وأخذ يوفي أغراضها في تخريج العلماء والموظفين للدولة، فطغت الكتب المدرسية، والموسوعات والمجموعات على التأليف المبتكر والخلق الادبي. من مؤلفي هذا الطراز: التبريزي (1109) تلميذ أبي العلاء والجواليقي (1145)، والجويني (1085)، والغزالي (1111) في أول أمره، حيث ألف في الدفاع عن الإسلام ضد الإلحاد الهليني، وفشت كتب العقائد، فألف فيها النسفي والسنوسي والإيجي. كما كثرت مجموعات الفتاوى والشروح والحواشي للتعليم، ومن الذين شذوا على هذا الاتجاه: ابن تيمية (1328) وتلميذه ابن القيم الجوزية (1350) اللذان هاجما جمود المدارس الدينية وطريقة الصوفية، ولكن أثرهما لا يظهر إلا بعد قرون عندما أحيا تعاليمهما محمد بن عبد الوهاب (1791) بتأسيس المذهب الوهابي في الجزيرة العربية. وإلى هذا الاتجاه أيضاً ترجع مدرسة محمود الجوانبوري (1652) التي أثرت في أجيال كثيرة في الهند، وفي دعوة ولي الله الدهلوي (1762). وألف السبكي (1370) في الشريعة، وابن نجيم المصري (1563) في الفقه الحنفي، وأبو حيان الأندلسي وتلميذه ابن هشام المصري (1360) في اللغة وامتد الأثر المدرسي إلى سائر فروع التأليف الأدبي، حتى الشعر، وأصبح تجميد الشكل، والجولان في إطار القديم، الهدف الأول للكتاب والشعراء، حتى صار من الصعب التفرقة بين شاعر وشاعر، لتشابه الموضوعات وتقارب طرق المعالجة، وشيوع أساليب التعبير الكلاسيكية. مما ساعد على تقليل فرص الابتكار أن بعض البلاد التي دخلت في الإسلام، وكتب مؤلفوها بالعربية زماناً أخذت تحيي لغتها الأصلية، بعد أن امتصت من الألفاظ العربية ما شاءت فظهر جيل جديد من مسلمي الفرس يؤلف بالفارسية الحديثة، بعد أن كان آباؤه يؤلفون بالعربية، ويساهمون في إنعاش جو الخلق والابتكار. لكن بفضل أثر الاتجاه الصوفي، وازدياد الحركة الهلينية في النقل والترجمة ووفرة المؤلفات التاريخية، استطاعت بعض العقول أن تحلق فوق الواقع المدرسي الجامد، وتؤلف جديداً مبتكراً. ومن هؤلاء مؤلفو المذكرات والسير الذاتية، مثل أسامة بن منقذ (1188) وعمارة اليمني (1175)، وابن خلدون فيما ألف عن سيرته الذاتية (1406). كذلك مذكرات الرحلات (ورحلة الحج خاصة) التي تصف البلاد والناس وعاداتهم، نجد منها القيم عند أمثال أبي حامد الغرناطي (1170) وابن جبير (1217) وابن بطوطة (1377) من المغرب وعلي بن أبي بكر (1114) من المشرق. وإن تكن السيرة الذاتية عند كثيرين خضعت للتأثير المدرسي، فاقتصرت على ذكر الشيوخ والمؤلفات فإننا في بعضها نجد تقريرات هامة، مثل تقريرات بعض الذين كانوا يوفدون في مهمات. ومن أطراف هذا النوع مذكرات إلياس بن يوحنا (1683) عن رحلته إلى أمريكا. وفي زمان الحروب الصليبية كثر التأليف حول الحروب وآلاتها. والجياد خاصة، والجهاد بوجه عام. وكثر السجع والنثر الموزون في التأليف الأدبي، وعم شكل "الفصول" مثل "أطواق الذهب" للزمخشري (1143). كان للقاضي الفاضل (1199) وزير صلاح الدين أثر كبير في إغناء لغة الدواوين وتطويرها، واستعمل السجع في كتابة التاريخ مثلما نجد عند الأصفهاني (1201) في تاريخه للسلاجقة ولصلاح الدين. وألفت الكتب البلاغية المدرسية التي جمدت البلاغة مثل كتاب "المفتاح" للسكاكي (1229)، الذي تعرض لكل موضوعات الأدب العربي وقننها في اختصار وأصبح السجع وسيلة كل تأليف أدبي أو ديمي. استمر أثر الهيلينية في العلوم، وانتعش التأليف الجديد في الطب حتى زمان الأنطاكي الذي كانت له "مختارات أدبية" أيضاً. وساهم الرازي (1209) والطوسي (1273)، وابن باجة الأندلسي (1138) وابن طفيل، وابن رشد (1198)، في نهضة علمية رياضية وفلسفية ضخمة. وقد أنعش التصوف في الأندلس ابن العربي في هذه الفترة. ووصلت العلوم الجغرافية إلى ذروة مجدها دقة (الخرائط) وشمولاً. ويمثل هذا الطور في التأليف الجغرافي: الإدريسي، ثم جاء القزويني، والدمشقي، وابن الوردي، ليطوروا الجغرافيا إلى وصف طبيعة الأرض والبلاد (كوزمو جغرافيا). وانتشرت في هذا العصر الموسوعات: بدأت بكتب مفهرسة للأنساب، ككتاب السمعاني (1156) ثم جاء ياقوت بكتاب "البلدان" ثم جاءت تراجم الرجال: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1282)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (1363)، ومنها ما يختص بطائفة من الناس، كتراجم العلماء للبيهقي (1170)، والقفطي (1248)، أو الأطباء لابن أبي أصيبعة (1270) أو اللغويين للسيوطي (1505) أو الأدباء لياقوت الحموي، أو الفقهاء للسبكي، الصحابة لابن الاثير (1234)، والعسقلاني (1448) أو علماء الحديث لشمس الدين الذهبي (1348). ثم تراجم لسكان مدينة أو أعلامها، مثل: أعلام دمشق لابن عساكر (1176) وحلب لابن العديم (1262) ومصر للمقريزي (1442)، والأندلس لابن بشكوال (1183)، وغرناطة لابن الخطيب. كذلك ألفت كتب عن الأعلام، مرتبة حسب القرون، وأول من فعل ذلك العسقلاني، وموسوعات الأعلام تصل عند حاجي خليفة (1658) في "كشف الظنون"، إلى درجة كبيرة من الشمول. كذلك كثرت في هذا العصر موسوعات العلوم المتقاربة، مثل كتاب النويري "نهاية الأرب في علوم الأدب"، وكتاب القلقشندي " صبح الأعشى في صناعة الإنشا". كثيراً ما كانت تختص الموسوعة بموضوع مثل الطب، أو وصف مصر، أو الفقه أو الحديث. وقد ألف في كل منها على حدة: عبد اللطيف البغدادي (1231). واستعرض السيوطي (1505) في عصر المماليك في مصر، المعارف كلها في زمانه، فيما يقرب من 400 رسالة، كل منها في موضوع. ونشط في هذا العصر أيضاً التأليف التاريخي، فبرز من المؤرخين: ابن الجوزي (1200)، وابن الأثير (1234) في كتابه الأشهر "الكامل" ثم النويري وأبو الفدا، والذهبي، وابن كثير، وابن خلدون والعيني وكلهم من أعلام القرون 13 و14و 15، ثم ظهر التأليف التاريخي الخاص بمنطقة مثل مصر، عند المقريزي، وابن حجر وتغري بردى، وابن إياس. وأرخ رشيد الدين للمغول، وابن خلدون للبربر، والمقري لمسلمي الأندلس في "نفخ الطيب". هذا الاهتمام الشديد بالتاريخ كان لابد أن ينتج نظرية في التأليف التاريخي، تبدأ عند السخاوي (1497) وتصل إلى نظرية علمية قوية عند ابن خلدون في مقدمته. وقد ترك المؤرخون بعد عماد الدين الأصفهاني الأسلوب المسجوع في الكتابة، وأن ظل بعضهم – مثل ابن حبيب الدمشقي (1377) في تاريخه للماليك، وابن عربشاه (1450) في تاريخه لتيمور- على سنة السجع. ولقد عانى شعر هذه الفترة من ضغط الاتجاه التعليمي والتقنيني، فلم ييرز من الشعراء إلا صفي الدين الحلي (1349) في العراق. وابن حجة الحموي (1434) في سوريا، والبهاء زهير (1258) في مصر. وظهرت قصيدة "نهج البردة" للبوصيري (1296) في هذه الفترة، فأصبحت من خوالد الأدب. ظهر الموال والدوبيت. وجود في الموشح: الططلي (1129) وابن بقي (1146). وفي الأندلس وصل الموشح إلى ذروته، بعد أن نشأ شعبياً ثم احتضنه البلاط فصقل وارتفع مستواه الفني. وقد نقله إلى المشرق ابن سناء الملك (1211)، ولكنه في المشرق فقد كثيراً من حيويته وتلقائيته ورونقه: ولم يبق من الزجل إلا قليل ويمثله أكثر من يمثله: ابن قزمان (1160) في الأندلس، والشربيني (1687) في "هز القحوف" في مصر. وهناك "الشعر الملحون" الذي فشا في المغرب واليمن. وفي هذا العصر حاول ابن دانيال (1310) أن يوجد المسرح ب"خيال الظل" الذي روج له، فلم يفلح. ووصل أدب السيرة الشعبية إلى ذروته، فمجدت حروب بني هلال في البلاد العربية وفي إفريقيا، وحروب بني كلاب ضد الروم، كما مجد أبطال شعبيون، مثل: عنترة والبطال، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، وذات الهمة. في القرن 15 وصلت ألف ليلة وليلة (على الأرجح) إلى شكلها الأخير، بعد أن ظلت قروناً طويلة يضاف إلى مجموعة قصصها أجزاء من شتى المصادر. وأما أثر التصوف، فإن يكن بدأ قليلاً، فلقد قوي مع الزمن، وبدأ يثمر، منذ وفق الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" إلى التوفيق بين مذهب التصوف ومذهب السنة. وساهم في هذا المضمار أيضاً عبد القادر الجيلاني (1166)، وأصبحت "الخانقاه" الصوفية تجاور المدرسة السنية في البلاد الإسلامية. وقد رعاها الحكام وانفقوا عليها. وأرسى شهاب الدين السهروردي (1191) في الصوفية قواعد مذهب "الإشراق" الصوفي، على أساس فهم شرقي للأفلاطونية الحديثة. وفي "عوارف المعارف" قنن عمر السهروردي (1234) "للإشراق" أيضاً، وإن يكن المذهب أثر في الشرق الأقصى أكثر من تأثيره في البلاد العربية. في الصوفية، أسس محي الدين ابن عربي (1240)، الذي ولد في الأندلس ومات في دمشق، مذهب وحدة الوجود على أساس من التصوف الأندلسي والأفلاطونية الحديثة. وبينما نجد النثر الصوفي لا يصل إلى درجة كبيرة من الجودة، وقد اختص بالمدح وذكر مناقب الأئمة والشهداء، نجد الشعر- وإن يكن لم يصل إلى آفاق الشعر الفارسي الصوفي- يصل إلى مستوى فني عال، فيصف النشوة الدينية في أشعار رمزية، اتخذت الغزل ووصف الخمر التقليدين سبيلاً إلى التعبير. أهم شاعر في هذا النوع هو عمر بن الفارض (1235) المصري، الذي يفرض شاعريته وعبقريته على هذا العنصر كله. وشعر ابن عربي أكثر كمية. ولكنه أقل شاعرية من ابن الفارض. وقد استعمل ابن عربي شكل مدائح العباسيين وموشحات الأندلسيين، ليؤدي أغراضه في التعبير عن التجلي الصوفي والنشوة الدينية. من تلاميذه: التلمساني (1291) وابنه شمس الدين المعروف باسم "الشاب الظريف" (1289). وفي عصر خمود الأدب، بعد الفتح العثماني وسلطانه القوي على مصر وسوريا، ظل التأليف الصوفي النور الوحيد في هذا الظلام، وبخاصة منذ القرن 16. يمثل هذه الفترة: الشعراني (1565)، ولكن عبد الغني النابلسي (1731) يعد أبرز شخصية فيها. فإلى جانب رسائله في الصوفية والفقه، نجد له شعراً، ونجد عنده فناً جديداً هو وصف رحلات صوفية بالنثر المقطع المقفى. وقد تأثر به أكثر كتاب القرن 18 في مصر وسوريا، بل وصل أثره إلى المغرب أيضاً. وظل الإشراق الصوفي مؤثراً في الشرق الأقصى بفضل صدر الدين الشيرازي (1640)، وفيض الكاشي (1676) الذين أثرا في نشأة مدرسة الإصلاح الشيعي في الهند، التي أسسها الشيخ أحمد الإحسائي (1827). وفي آخر هذه الفترة، بدأت علائم العودة إلى المدرسة السنية في التصوف وذلك فيما ألف الزبيري (1791)، وقد ولد في الهند وعاش في مصر، كما تظهر عند الشاذلية في المغرب. الموسوعة العربية الميسرة، 1965